الدين هو المقوم الأساسي للنهوض عند المسلمين وتاريخ المسلمين والحضارة التي أقاموها خير دليل على دور الدين في صنع حضارة إنسانية عالمية قامت على مبادئ الإسلام واستفادت من تجارب ومنجزات الحضارات التي سبقتها وشارك في صنعها غير المسلمين ولكنها صُبغت في مجملها بالصبغة الإسلامية وآثار هذه الحضارة مازالت شاهدة على الخير الذي قدمته للبشرية.
البعد عن الدين والتخلف
ارتبطت الحضارة التي أسسها المسلمون بالدين ارتباطاً وثيقاً والإسلام كان المحرك الأساسي للنهضة التي حققها المسلمون في كل المجالات والحضارة التي صنعها المسلمون كانت حضارة إنسانية بما تحمله كلمة إنسانية من معان ودلالات، أما الغرب الذي أسس نهضته بعيداً عن الدين والأخلاق فقد أنشأ مدنية غربية كانت وبالاً على العالم بأسره وعلى الغربيين أنفسهم والأمثلة على توحش المدنية الغربية لا حصر لها ويكفينا هنا مثال واحد على ما ترتكبه المدنية الغربية من جرائم بحق الإنسانية فنفايات الغرب النووية والتكنولوجية والدوائية والغذائية تجد طريقها إلى الدول الفقيرة لتصيب الملايين بالسرطان وبالأمراض المستعصية.
والقول إن الغرب لم ينهض ولم يتفوق إلا عندما أخرج الدين من الحياة العامة وحصره في الكنائس بحاجة إلى تمحيص، فالدين الذي أخرجوه من حياتهم كان ديناً محرفاً عبارة عن خليط من المسيحية والوثنية والثورة التي قامت ضد الدين في الغرب كانت موجهة في الواقع إلى رجال الدين للتخلص من نفوذهم وسيطرتهم على كل صغيرة وكبيرة في حياة الغربيين.
والنهضة التي حققها الغرب بمعزل عن الدين الحق وعن الأخلاق ارتقت بالماديات على حساب الإنسان وأفقدت الإنسان قيمته وكرامته حتى أصبح سلعة رخيصة. والمدنية الغربية أدخلت الإنسان في صراع مع البيئة المحيطة به ولا شك أن الإنسان هو الخاسر الأكبر في هذا الصراع والدليل على ذلك الكوارث البيئية التي تجتاح العالم وتهدد البشرية كلها بالفناء.
أما النهضة في الإسلام فمنضبطة بمنهج السماء وهدفها ربط الإنسان بخالقه عز وجل، والارتقاء بالإنسان وإعادة التوازن للعلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان من ناحية، والعلاقة بين الإنسان والكون من ناحية أخرى وهذا هو الدور الذي يجب أن يقوم به المسلم في هذه الحياة. يقول المفكر العبقري مالك بن نبي رحمه الله: «إن أوروبا حققت المعجزات في عالم الاكتشافات وعالم العلوم.. ولكنها فقدت في أعماق نفسها البعد الذي كان يروح عليها ويرفه عنها ويسندها في وقت المحن لأنه يربطها بوجود الله. وإذا أراد المسلم أن يسد هذا الفراغ في النفوس المتعطشة، النفوس المنتظرة للمبررات الجديدة.. فيجب أولاً أن يرفع مستواه إلى مستوى الحضارة أو أعلى منها كي يرفع الحضارة بذلك إلى قداسة الوجود، إلى ربانية الوجود، ولا قداسة لهذا الوجود إلا بوجود الله».
وفصل الدين عن الدولة في الدول العربية والإسلامية ومحاولات عزل وتحجيم دور الإسلام فيها لم يعالج المشكلات الكثيرة التي تعاني منها بل زادها تعقيداً ولم ينهض بهذه الدول بل زادها فقراً وجهلاً وتخلفاً وتبعية للغرب ولم ينقل العرب إلى الجنة الموعودة ولذلك يجب علينا كعرب ومسلمين أن نفيق من الوهم الذي حاول الغربيون وبعض العرب والمسلمين زرعه في النفوس من أن التقدم لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق إبعاد الدين عن شؤون الحياة وأن نبحث عن الأسباب الحقيقية لتخلفنا وتراجعنا في كل المجالات وعلى رأسها الابتعاد عن الإسلام الذي حمل مشروعاً حضاريا للبشرية في العقيدة والأخلاق والمعاملات وضمن العدل والمساواة بين جميع البشر وأقر حقوق الإنسان قبل أن يعرفها الغرب بقرون.
الإسلام وضوابط النهوض
التنمية البشرية لا يمكن أن تتم بمعزل عن تعاليم الإسلام وعن الاعتدال والوسطية التي توازن بين متطلبات الروح والجسد وبين متطلبات الفرد ومتطلبات الجماعة. يقول تعالى:«يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ».
والنهضة الاقتصادية لا يمكن أن تؤتي أكلها إن لم تكن متوافقة مع أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية التي تراعي مصالح الجميع. يقول الله عز وجل: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».
والنهضة العلمية لا يمكن أن تتحقق إن لم تكن منضبطة بالضوابط الشرعية التي تحدد الأهداف والوسائل التي تؤدي إليها. يقول تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ».
والإسلام منهج شامل جاء ليصلح الكون وما فيه ويلخص الأستاذ حسن البنا رحمه الله معنى خاصية شمولية الإسلام بقوله: «الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء».
والبعد عن منهج الله عز وجل هو الذي صير المسلمين إلى حالة الضعف والذل والهوان الذي يعيشون فيه اليوم ولا مخرج إلا من ذلك إلا بالعودة إلى الكتاب والسنة وتطبيق المبادئ التي جاء بها الإسلام وجعلها واقعاً معاشاً في حياتهم.
والخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببصيرته النافذة أدرك هذه الحقيقة وجسدها في مقولته الشهيرة: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله».
وقد يكون هناك مبررات لأي أمة تتوجه شرقاً أو غرباً بحثاً عن منهج حياة يرتقي بها نحو المعالي ويمكن التماس الأعذار لأي أمة تتخبط في اختيار نظام من النظم الوضعية لتسير بها أمورها ونقول إن كان ذلك مقبولاً لأي أمة من الأمم على وجه الأرض فهو مرفوض رفضاً قاطعاً في حالة الأمة الإسلامية لأن المنهج بين يديها وهو منهج رباني وليس منهجاً وضعياً، وهو قابل للتطبيق، لأنه متلائم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهذا المنهج أثبت نجاحه وقدرته على التغيير فنقل العرب من الظلمات إلى النور ومن التخلف إلى المدنية والحضارة ومن الضعف والذل إلى القوة والعزة ومن التبعية إلى السيادة كل ذلك في غضون سنوات قلائل لا تمثل – من حيث المدة – شيئاً في عمر الأمم والحضارات ولكنها أثمرت وأتت بما يشبه المعجزات التي لم يعرف لها التاريخ مثالاً فهل بعد ذلك يمكن أن يُتهم الإسلام بأنه العائق الذي يقف أمام تحقيق النهضة في البلاد الإسلامية؟
الإسلام والعلم
من وسائل تحقيق النهضة الاهتمام بالعلم والبحث العلمي والإسلام اعتنى بالعلم فقد كانت أول كلمة نزلت في القرآن الكريم هي كلمة (اقرأ) وهي دعوة صريحة للقراءة التي هي مفتاح العلم والمعرفة والمسلمون هم من وضعوا أسس البحث العلمي والمنهج التجريبي الذي قامت عليه النهضة الأوروبية.
وللعلم في الإسلام منزلة سامية ورفيعة فقد كرم الله سبحانه وتعالى سيدنا آدم وفضله على الملائكة بالعلم يقول الله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ».
والإسلام رفع منزلة العلم والعلماء يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ».
والإسلام حث على طلب العلم والاستزادة منه يقول تعالى: «فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا» وفي فضل العلم والعلماء هم أهل المعرفة والخشية يقول تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ». ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:« إنَّ المَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ». والمسلم يعلم يقيناً أن العلم منحة إلهية وهبة ربانية يقول الله تعالى: «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».
لذا فهو يطيع الله عز وجل ويتقرب إليه بذلك العلم الرباني يقول الله تعالى عن سيدنا الخضر عليه السلام: «فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا».
والعلم هو مفتاح التقدم والرقي ولذلك اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليم الصحابة وطلب من أسرى بدر من المشركين أن يعلموا أبناء المسلمين مقابل إطلاق سراحهم. فعن ابن عباس قال: «كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة».
وطلب العلم فريضة أوجبها الإسلام فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:« طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ». والعلم من الأشياء الباقية التي تنفع الإنسان بعد موته لأن نفعه يتعداه إلى غيره، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:« إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
والإسلام دعا المسلمين إلى الأخذ بأسباب القوة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ. وَفِي كُل خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزْ. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كان كذا وكذا لم يُصبني».
والعلم والمعرفة يأتيان على رأس أسباب العزة والقوة والمنعة في هذا العصر والمقياس الذي تقاس به درجة تقدم الأمم اليوم هو امتلاك مفاتيح العلم والمعرفة.
وعلى الرغم من ذلك كله تركنا العلم والتعلم وتوقير العلماء وانزالهم المنزلة التي تليق بهم ففشت فينا الأمية واستشرى فينا الجهل وتكالبت علينا الأمم نتيجة لذلك وما من سبيل لتحقيق النهضة إلا بالاجتهاد في طلب العلم والاهتمام بالبحث العلمي وتوقير العلماء وإنزالهم المكانة التي تليق بهم.