بدأت مؤخرا بقراءة مقدمة العلامة ابن خلدون، وهي المقدمة المعروفة باسم «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، وفي القسم الأول من المقدمة والتي تحمل عنوان «في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها» يتحدث ابن خلدون عن مغالطات ما ينقل من تاريخ عبر الأولين والتباين الكبير بين «المنقول» والمنطق الذي يتقبله العقل، وفي هذا يقول: «أعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. والأنبياء في سيرهم. والملوك في دولهم وسياستهم. حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد».
انتهى الاقتباس من مقدمة ابن خلدون.
مؤخرا سُحرت بالأخبار التي تم تناقلها عن فيلم أميركي حصل على عدة جوائز «أوسكار» ويحمل عنوان «هورت ذا لوكر»، أي «خزانة الموت»، وما شدني أكثر أن قائد الجيوش الاميركية في الشرق الاوسط واسيا الوسطى، والذي كان قائدا للجيش الأميركي في العراق، الجنرال ديفيد يترايوس، امتدح حصول الفليم على كل جوائز الأوسكار تلك، كل ذلك دفعني لـ «أدفع» وأقطع تذاكر السينما وأدخل لحضور الفيلم الذي يروي حكاية من العراق، وكان في بالي أن أرى ترجمة لقصة احتلال العراق ومعاناة الناس وما ساقته الحرب من وبال على شعب عربي عزيز حاولت «خيانات» كثيرة إذلاله، لكنه ما زال صامدا، رغم كل شيء، ويدافع عن حقه في المستقبل.
كلام ابن خلدون قفز الى ذهني فور أن انتهى الفيلم، وأدركت ماذا كان يعني الرجل حينما تحدث عن الكذب والمغالطات والوهم والمظنة ومطية الهذر في النقل وضرورة أن ترد الأمور الى القواعد، أي المنطق، قبل أن تنقل، فما نقله «هارت ذا لوكار» ليس له علاقة بالمنطق ولا بالحقيقة، فالجندي الأميركي، وإن كان يعاني ويعرض حياته للخطر وهو يحاول تفكيك قنبلة زرعت في الأرض أو حول جسد إنسان بريء، جاء محتلا الى العراق وكان سببا في زرع تلك القنبلة وفي تحويل ذلك الإنسان البريء الى قنبلة، فالفيلم يتحدث باختصار عن معاناة الجندي المختص بتفكيك القنابل داخل البدلة الواقية التي يرتديها لتقيه من الإصابة أو الموت في حال انفجرت القنبلة، ومن هنا جاءت تسمية «خزانة الموت».
لكن المؤلف نسي على ما يبدو «خزانة الألم الأكبر» التي يعيش فيها كل أبناء العراق منذ احتلاله وحتى اللحظة، ونسي أيضا أن ينقل ولو شيئا من معاناة أطفال العراق وأمهاته وأرامله ومصابيه ومعاقيه ومشرديه ومن تشتت عن وطنه في كل أرجاء الدنيا.
بعد أن خرجنا من السينما، سمعت سيدة تخاطب زوجها وتقول له «هذا أسوأ فيلم شاهدته في حياتي»، فتطفلت على الحوار وقلت لها: «رغم أنه حصل على كل جوائز الأوسكار تلك»، فردت: «حتى الأوسكار باتت مسيسة»، فقلت : «والأكثر أنها مزيفة»، كما القصة التي ينطبق عليها كلام ابن خلدون عن الكذب والهذر في نقل التاريخ.