الحديث عن عبد الناصر في معظم الأحيان يتراوح بين حبّ العاشق الذي يرى الكمال في محبوبه، أو حديث الحاقد الذي يعمّم جزئية سلبية على كلّ الصور
الحديث عن جمال عبد الناصر ليس دائماً حديث ذكريات إيجابية أو سرد لسيرة بطل تاريخي في الأمة العربية، بل نجد الحديث عن عبد الناصر في معظم الأحيان يتراوح بين حبّ العاشق الذي يرى الكمال في محبوبه، أو حديث الحاقد الذي يعمّم جزئية سلبية على كلّ الصورة، فلا يرى إلاّ السواد والظلم والظلام. فالحبّ الشديد والحقد الشديد كلاهما يتساويان في تسبّب غشاوة البصر وأحيانا في الإصابة بالعمى!.
ومن الطبيعي أن يكون لكلّ فكرة أو عمل من يستفيد ومن يتضرّر منهما.. لذلك لن يستطيع أيّ إنسان عربي أن ينظر إلى تجربة ناصر من موقع الحياد الموضوعي المجرّد.
جمال عبد الناصر لم يكن قائداً عربياً فقط، بل كان أيضاً حاكماً ورئيساً لشعب مصر. فبينما عرفه العرب غير المصريين بدوره كقائد تحرر قومي، عرفه شعب مصر إضافة إلى ذلك كحاكم يحكم من خلال أجهزة وأشخاص، فيهم وعليهم الكثير من الملاحظات والسلبيات.
ولم نكن كعرب في فترة عبد الناصر (ولسنا كذلك الآن طبعاً) نعيش في ظلّ دولة واحدة، كما كان الأمر في حالة مارتن لوثر كنغ في أميركا أو غاندي بالهند أو ماوتسي تونغ في الصين أو ديغول في فرنسا، ليكون الفرز الوطني الداخلي على أسس سليمة بين المتضرّر والمستفيد من وجود أفكار وأعمال هؤلاء القادة التاريخيين ..
بل أيضا كنّا عربياً (وما زلنا) ننتمي إلى أمّةٍ واحدة لكن في إطار دول وحكومات متعدّدة، وأثر ذلك على فهم تجربة عبد الناصر كبير جدا. فهو كان مصدر خطر على وجود أو مصالح العديد من الحكومات العربية الأخرى..
رغم كلّ ذلك، يكفي شهادة لشعبية عبد الناصر في المنطقة العربية ما حدث في مناسبتين: يوم استقالته بعد حرب 1967 (9 و10 يونيو/حزيران)، ويوم وفاته في 28 سبتمبر/أيلول 1970، حيث خرجت الجماهير العربية إلى الشوارع، من المحيط إلى الخليج، وبدون دعوة من أيّ جهة، لتؤكد تأييدها وحبّها الجارف لجمال عبد الناصر.
إن قراءة موجزة لتجربة عبد الناصر تجعلنا نضع الخلاصات التالية:
- التوقف عند بداية التجربة: فقد قامت ثورة 23 يوليو بواسطة جبهة “الضباط الأحرار” وليس من خلال حزب أو تنظيم موحد الفكر وأسلوب العمل.
- الظروف الداخلية والخارجية التي أحاطت بالتجربة: تجزئة عربية وتعامل مع الساحة العربية إما من خلال الحكومات أو أجهزة المخابرات المصرية، وحرب باردة بين المعسكرين الدوليين، حيث تركت هذه الحرب بصماتها الساخنة على كل المعارك التي خاضها عبد الناصر.
- العمر الزمني المحدّد لهذه التجربة: من العام 1952 إلى العام 1970.
- المراحل التي مرّت فيها هذه التجربة، وكان لكلّ منها سمة خاصة بها:
- مرحلة التحرر الوطني (1952-1956): التي انتهت بحرب السويس.
- مرحلة المد العروبي والتحرر القومي (1956-1961): وهي مرحلة الوحدة مع سوريا، وسياسة عدم الانحياز وثورات الجزائر والعراق ولبنان.
- مرحلة الفرز الاجتماعي (1961-1967): وهي مرحلة الطرح الاشتراكي الذي بدأ مع قرارات يوليو 1961 الاشتراكية.
- مرحلة التضامن العربي والمواجهة مع إسرائيل: من مؤتمر القمة العربية في الخرطوم(1967) إلى اجتماعات القاهرة لوقف الصراعات الدامية في الأردن(1970) والتي انتهت بوفاة ناصر. والحقبة الزمنية بين العامين 1967 و1970، هي مرحلة النضوج الفكري والسياسي لتجربة عبد الناصر، والبناء المصري الداخلي السليم، خاصة في المؤسسات السكرية والأمنية، وتعزيز العلاقات العربية التضامنية خاصة بعد سحب الجيش المصري من اليمن.
وأهم أولويات هذه المرحلة كانت: أولوية المعركة مع إسرائيل – أولوية التضامن العربي- أولوية البناء الداخلي السليم عسكرياّ واقتصادياً وسياسياً، كما نص على ذلك بيان 30 مارس 1968 – رفض الوحدة الاندماجية الفورية مع السودان وليبيا لعدم تكرار أخطاء تجربة الوحدة مع سوريا، ورفض الانجرار إلى صراعات عربية “تأخذ من المعركة مع إسرائيل ولا تعطيها”، كما قال عبد الناصر.
لكن المشكلة بثورة 23 يوليو أنّ ساحة حركتها وأهدافها كانت أكبر من حدود موقعها الجغرافي المصري.. فقد كانت قضاياها تمتدّ لكلّ الساحة العربية، وأيضا لمناطق أخرى في إفريقيا وآسيا.
وأعتقد إنّ “23 يوليو” بدأت ثورة مصرية، ونضجت كثورة عربية، ثمّ ارتدّت إلى حدودها المصرية بعد وفاة ناصر. فشعارات ثورة 23 يوليو (المبادئ الستّة) كانت كلها محلية خاصة بمصر ولم يكن فيها أي شعار عربي أو حتى خاص بالصراع العربي الصهيوني: 1- القضاء على الاستعمار وأعوانه في مصر. 2- القضاء على الإقطاع. 3- القضاء على الاحتكار. 4- إقامة عدالة اجتماعية. 5- إقامة جيش وطني قوي. 6-إقامة ديموقراطية سليمة.
إنّ جمال عبد الناصر كان قائداً تحررياً بالمجالين: الوطني المصري والقومي العربي، ولم يكن صاحب فلسفة خاصة أو مبتدع لنظرية فكرية متكاملة (هو نفسه أكّد ذلك في “الميثاق الوطني” عام 1962 وفي مناسبات أخرى).
فعبد الناصر كان يقف على أرضٍ فكرية محسوم فيها جانب الإيمان الديني (وما فيه من أبعادٍ فلسفية) والجانب القومي (وما فيه من تأكيدٍ للهوية العربية). وكانت قضايا الحرية والعدالة والاستقلال والتحرر الوطني والقومي هي أبرز الأهداف والغايات التي عمل جاهداً من أجلها.
وقد ارتبطت هذه الغايات لدى عبد الناصر بثلاث مسائل:
– الأولى: نبذ العنف كوسيلة للتغيير الاجتماعي أو السياسي أو للعمل الوحدوي القومي.
– الثانية: الاستناد إلى العمق الحضاري الإسلامي والدور الإيجابي للدين والقيم الروحية في المجتمع.
– الثالثة: مفهوم عبد الناصر للدوائر الثلاث التي تنتمي مصر إليها: العربية والإفريقية والإسلامية، وبحالٍ من التفاعل والتكامل بين الوطنية والعروبة والانتماء الحضاري الإسلامي.
***
كما تلازمت مع تجربة ناصر سلبيات كان أبرزها دور أجهزة المخابرات (داخلياً وخارجياً) في المجال غير الأمني المحدد لها أصلاً، حيث حلّت الأجهزة مكان العمل السياسي المنظم والسليم البنية فكرياً وأخلاقياً، وما كان لذلك من آثار أيضاً على تعطيل الممارسة الديمقراطية السليمة رغم وجود انتخابات محلية ووطنية و”مجلس الشعب/البرلمان في مصر. أيضاً، ساهمت البيروقراطية الإدارية (ومراكز القوى) في الحلول مكان الكوادر والقيادات الشابة الواعية وأصحاب الكفاءات، إضافة للتأثير الفكري السلبي للمجموعات الماركسية داخل “الإتحاد الاشتراكي” و”التنظيم الطليعي”، خاصة بعد تعمق العلاقة المصرية-السوفيتية.
***
إنّ “الناصرية” هي كلمة تحمل الكثير من المعاني – وأحياناً المضامين المتناقضة وسط من يحملونها كتسميةٍ لهم – لكن إذا كانت هناك قناعة الآن لدى العرب بأهمية التحرر من الهيمنة الأجنبية وبناء نهضة عربية شاملة تصون الأوطان ووحدة المجتمعات في الأمّة، وتُحصّن الوحدة الوطنية في كلّ بلد عربي وتعمل من أجل بناءٍ ديموقراطي سليم وتنمية اجتماعية واقتصادية، وتعمل أيضاً من أجل تكامل الوطنيات العربية واتحادها مستقبلا، فإنّ “الناصرية” في هذا المنظار تُصبح تجربةً مهمّة في التاريخ العربي المعاصر، من الضروري الإستفادة من إيجابياتها وعدم تكرار سلبياتها. ولعلّ الأهم في هذه التجربة الناصرية هو ما كانت تعمل من أجله باخلاص لصالح الأمة العربية من أفكار وأهداف كبرى بدأت قبل عبد الناصر وهي مستمرَّة بعد رحيله.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن
Twitter: @AlhewarCenter
ترحب ‘راي اليوم’ بآراء الكتاب وتأمل ان لا يزيد المقال عن 8