رمضان والربوة والقمر/ اسماعيل يعقوب الشيخ سيديا
وجدانيات رمضان:
أشتاق لرمضانات بتلميت القائظة؛ حين كانت شلة الحي تتسامر على المصابيح البترولية أو على الربوات المقمرة؛ في انتظار نضج خبز الأفران الحطبية ذات المدخنات الفوارة التي تتضوع من بعيد.
وقبيل الفجر أول وآخر مسحراتي في المدينة شيخ الزهد والصلاح عبدالله العتيق ولد احمد زايد يجوب شوارع المدينة بعصاه ومصباحه وكنانته؛ تتعالى نداءاته -أعلا الله مقامنا ومقامه في الحياة والممات- صادحا : تسحروا ياعباد الله ؛ فإن في السحور بركة.
حتى الأطفال رغم إضرابهم التعسفي في الغالب عن الطعام أثناء رمضان فقد كانوا أكثر الفرحين بالإفطار ربما إيثارا وربما طمعا وأخشى على ذلك الإحساس الذي مرده الندرة أن يختفي.
وقبيل الإفطار تجلس الأمهات والأخوات وسط منطقة العمليات تمخضن وتخضضن الحليب الرائب مستخرجات زبدته وخالطات إياه بماء وسكر في قداح خشبية من شجر “يطه” الإفريقي القوي.
ومع خرير الشاي وصرير الكؤوس تتعالى أذانات المؤذنين وتمتمات الصائمين : اللهم لك صمت وعليك توكلت وعلى رزقك أفطرت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أعلنت وما أسررت وما أنت أعلم به مني ؛ ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله. تمرات تلاك وكؤوس حساء تحتسى وسيد الشراب “ازريگ” والشاي ثم الطعام.
ليت الموريتانيين اعتبروا “الزريگ” الشراب الوطني رقم واحد، وليتهم عادوا لموائدهم الأصلية.
من أعظم أسرار الحضارة الموريتانية وأكثرها قابلية للاستلهام هو تلك السذاجة والإصرار في البحث عن ذلك الطعم الخفي والذوق الأصيل في كل شيء؛ وذلك الفرار من القشور.
كل شيء كان سهل المنال هين المتناول قليل التركيب؛ ثم تعددت الروافد وكثر الزائرون فتغير وجه المائدة الموريتانية إلى غير رجعة.
حتى أقداح يطه الحبيبة اختفت وإن ظهرت مؤخرا بشكل مبتسر من البلاستيك؛ وكأن ألوانها المازجة بين السمرة والبياض تحمل سحرا وجاذبية يتعذر تعويضهما.
ولم تعد الليالي المقمرة والربوات ورمالها الذهبية تعني شيئا لأن ضباب انواكشوط ومقاهيها أنستناها. وأشعة الشاشات الذكية أحرقت الكثير من أواصر الصداقات البريئة؛ حتى تحول الصديق في عهدها إلى صديق سابق هو الآخر. في حين أن خبز الحطب صار في خبر كان ؛ ومنبهات الساعات ومكبرات الصوت حلت محل المسحراتي.