عايشت الموت ولم أمت.. حكاية عجوز سوري
جوبر (سوريا) (رويترز) – أبرم محمد المصري ابن الخمسة والسبعين عاما اتفاقا شفهيا مع الموت على مشارف حي جوبر الدمشقي قضت بنوده بأن يظل شاهدا على حي من رماد وأن يروي حكاية بيت سكنته العناكب.
منذ اندلاع المعارك في 2012، عاش المصري، الذي يُعرف بلقب أبو أحمد، سنوات الحرب كلها على آخر خط للتماس أقامه الجيش السوري مع المسلحين في حي جوبر الواقع عند أطراف العاصمة السورية دمشق فلعب دور حارس الحي وعامل النظافة الذي يطهر المنطقة من بقايا نفايات العسكر.
وفي مارس آذار ومع انسحاب مسلحي المعارضة من جوبر تحت وطأة ضربات الجيش السوري مدعوما بالسلاح الجوي الروسي، بدأت بعض ملامح الحياة كما كان يعرفها أبو أحمد تعود للحي المهجور.
واستكمل الجيش السوري هجومه على بلدات ومدن في الغوطة الشرقية وصولا الى دوما آخر معاقل المعارضة المسلحة في واحدة من أعنف الهجمات خلال الحرب السورية التي دخلت في مارس اذار الماضي عامها الثامن.
وتضع تلك التطورات الرئيس السوري بشار الأسد على شفا تحقيق أكبر انتصار على المسلحين منذ إجبارهم على ترك حلب في ديسمبر كانون الأول 2016، على الرغم من أن المعارضة ما زالت تسيطر على مناطق جنوب غرب سوريا وفي إدلب بالشمال السوري التي انتقل اليها المسلحون بعد مغادرتهم جوبر.
ورغم أن حي جوبر لا يزال خاليا من السكان باعتباره منطقة أمنية كما يصنفها الجيش وتفترش أراضيه الأبنية المدمرة وبقايا رصاص وصواريخ لم تنفجر، فقد بدأت العودة نسبيا إلى أطراف هذا الحي من جهة ساحة العباسيين بعد انتهاء المعارك في دوما، ووجد أبو أحمد نفسه يجلس بأمان أمام منزله للمرة الأولى منذ سنوات.
تبعد جوبر نحو 500 متر عن ساحة العباسيين ثاني الساحات الكبرى في دمشق. وكما الغوطة الشرقية التي كانت تشكل أكبر معقل للمعارضة المسلحة فإن جوبر شكلت نقطة التماس الأولى لدمشق وقد دخل النزاع اليها منذ العام 2012، وكانت هدفا للنظام منعا لتسلل المسلحين إلى قلب العاصمة.
* ”ما عاد للوقت معنى“
يتألف المنزل الترابي القديم لأبو أحمد من غرف أرضية متداخلة بينها غرفة بلا سقف. أما الأثاث فمن أدوات لا تتعدى خزانة ملابس غطاها الغبار وجهاز تسجيل قديم وراديو وغيرها من مقتنيات اتخذ العنكبوت منها بيوتا لكأن صاحب المنزل لم يدخل الغرفة منذ سنين.
يفتح المصري الباب الخشبي المهترىء للغرفة ويمسك خيوط العنكبوت بين يديه لازاحتها من دربه بهدف عرض بذلته ذات اللونين الأخضر والبني ويقول ”لم ألبسها من زمان“.
خلال سنوات الحرب لم يذهب أبو أحمد إلى أي مكان وظل وحيدا في بيته محاطا بمجموعة عسكرية من الحرس الجمهوري.
يعود بذاكرته وهو يحكي لرويترز قائلا ”لم أخط ولا خطوة من هنا، لا بالليل ولا بالنهار، بيني وبين الدبابة عشرة أمتار. أنا الوحيد الذي كنت في هذه المنطقة، لا بنايات ولا غيره.
”كنت أنا والجيش مثل الأخوة. لم يدخل عسكري إلى هذه المنطقة إلا وأعرفه ويعرفني. كان الجيش يقلعني ( يطردني) إلى داخل البيت ثم أعود إلى الخارج“.
تعرض منزل المصري للقصف ثلاث مرات مما أدى إلى سقوط أجزاء منه. يقول أبو أحمد ”سقطت القذائف على البيت وأنا في داخله. لم أخرج. نظفنا ورجعنا قعدنا. الموت كان قريبا مني. أنا عشت هنا مع الموت ولم أمت. في بيتي سقطت ثلاث قذائف وأصيب ابني بشظية. الحمد لله رب العالمين“.
يمضي أبو أحمد في حكايته ليبوح بمكنون مشاعر كبتها طويلا فيقول ”ثلاث قذائف ببيت واحد! لا أحد يستطيع أن يهرب من الموت إذا كان بالقذائف أو غيره.
”لكن طبعا كنت أخاف أحيانا. كنت عندما طخي (أنحني) لأكنس، أقول ’هلق بتيجي بظهري‘. ولمدة أكثر من شهر كنت أنام بحذائي. استنفار كامل. هذه كانت في أوائل الأحداث. كنا ننام بملابسنا. بعد ذلك طنشنا (لم نعد نكترث). قلنا إن الشغلة طويلة. لا نعرف ماذا سيحصل“.
انقطع أبو أحمد عن التواصل مع محيطه مكتفيا بتعداد ما يسقط من قذائف في منطقة يصفها بالمخيفة جدا حيث يتمركز القناصة على سطوحها العالية.
لكن كل هذا الحصار والخوف والقصف لم يمنعه من التواصل على الهاتف مع شقيقته أو من مشاهدة التلفزيون.
يقول أبو أحمد ”كتار قالوا عني مجنون. شو قاعد عم بتساوي. هربوا الكل. عندي تلفزيون وأحضر كل شي. إذا بدي أعطي بالي للأخبار فقط بيموت الواحد على بكير. ما عاد للوقت معنى هون. أنام وأصحى بلا وقت“.
* من دمر الكنيس اليهودي في جوبر؟
قبل 2012 كانت الأسواق في جوبر عامرة وشوارعها لا تنام وكانت الدولة السورية تصنفها ملتقى للأديان حيث تضم في وسطها كنيسا يهوديا يعتبر من أقدم المعابد اليهودية في العالم.
ويقول جندي رفض الكشف عن اسمه وهو يقف على رأس تلة مطلة على جوبر إن المسلحين سرقوا كل شيء وأخذوه معهم. ويضيف قائلا لرويترز ”حتى الكنيس اليهودي سرقوا محتوياته… هنا كنا على تماس معهم طول الوقت، بيننا وبينهم بضعة أمتار. أوقات كثيرة كانت تهدأ الجبهة هنا ولكن فجأة تنفجر ونعود إلى خلف المتاريس“.
وتتهم دمشق المسلحين بسرقة الكنيس اليهودي في حي جوبر في الغوطة الشرقية بينما يقول مقاتلو المعارضة إن الجيش السوري والقوات الحليفة هم من قصفوا الكنيس كما بقية الأماكن الدينية في الحي.
* أهازيج الحياة في جوبر
وسط الدمار وآثار القتال الدامي يسير بعض الفتيان والاولاد بين المتاريس والخنادق وفوق تلال الرمال التي ما زالت متأهبة كما لو أن الحرب قائمة وهم يستكشفون المكان الذي لم يستطيعوا الوصول إليه من قبل بينما عناصر الجيش يصيحون قائلين لهم ”ابتعدوا من هنا!“
ويواصل الجيش السوري تمشيط المنطقة واكتشاف أنفاق كانت أساس الحرب في جوبر على مدى السنوات الماضية.
وبعد أن كان في شبابه يعمل في صناعة قوالب سكب المعادن، ينهمك أبو أحمد الآن في كنس المنطقة وتنظفيها.
وردا على سؤال عن دوافعه لذلك يقول ”لاك عمي هذه بلدي إذا أنا بدي استهتر والثاني يستهتر والثالث يستهتر.. بتخرب على بكير“.
ومع بدء عودة أهالي جوبر إلى الحي بعد تهجير استمر سنوات، يستأنس أبو أحمد بأصوات تتناهى إليه لفتيات يرددن الأغاني الدمشقية الشهيرة مثل (يا مال الشام) و(عالصالحية يا صالحة)، ويصيح قائلا بنبرة فرح وحماس ”اسمعوا! لقد عادت الحياة إلى الحي!“