المدينة التي يدخلها الرجل أصلع ويخرج بذوائب مائلة وتدخلها المرآة بأنف أفطس لتخرج بأنف دقيق
لوظيفة ينشدها أو صفقة يعقدها أو عيون امرأة يحبّها.. هذه تحيط بدواعي الهجرة عمومًا أو لنقل لدنيا يصيبها، بوجه أشمل. أو هكذا كنت أظن حتى اكتشفت في إسطنبول بابًا غير مطروق من أبواب الزيارة والإقامة: ثمة من يقصد مدينة الجمال لصلعة يزرعها، أو شحوم يشفطها، أو أرنبة أنف يقوّمها.. وما أكثر من دخلها ملحوس الجمجمة كيوم ولدته أمه وخرج محتارًا بذؤابته يميلها ذات اليمين وذات الشمال، وكم من ذات أنف أفطس قضت بضع ليال في إسطنبول وعادت إلى زوجها بأنف أقنى دقيق ولا أنف كيت ميدلتون، وكم زميل أسنانه نخرة ذهب في عطلة قصيرة إلى تركيا وعاد إلى الدوام بصف جواهر مرصوصة يخطف بصر زملائه بياضُها، وكم من حاجية وقورة ودعت الأولاد والأحفاد ببطن عظيم وعادت إليهم بخصر نحيل.. وأعفيكم من الاسترسال في سرد أنواع التحول وما تصيب من الأجساد لأن حسابي هذا مصنف ضمن الfamily friendly.
عند قدومي إلى المدينة قضيت أولى أيامي في فندق يطل على البوسفور، لكن غرفتي كانت تطل على ورش بناء وآلات الحفر كانت توقظني قبل طلوع الشمس فكنت من أوائل من ينزلون إلى المطعم للإفطار. وبين الأوائل استرعى انتباهي رجلٌ يحرص على الإفطار بسرعة والصعود إلى غرفته قبل أن يمتلئ المطعم بالناس وقد لفّ رأسه بضمادة تحيط به وكمادات تنزّ بالدم أم لعله دواء، لم أحرص على التدقيق فما هو بالمشهد الذي يستهويك أن تستهل به يومك في السابعة صباحًا، فاعتبرت ان المسكين نجى من حادث سير خطير ولملم الجراحون رأسه وخرج منها بأعجوبة شفاه الله ووقانا ممّا ابتلاه به. بعد لحظات دخل المطعم رجلٌ ثان في مثل هيئته، ثم ثالثٌ ورابع حتى امتلأ المكان بالرؤوس المعصوبة المندوبة من شتى الأحجام والأشكال والأجناس، بعضها نُكشت في بقعة محدودة وأخرى جُرّف سطحها تجريفًا واسع النّطاق.. المشهد كله لم يكن مريحًا بالمرة، ونال من شهيتي بكل صراحة. وأدركت أن الأمر لا يتعلق بحادثة سير جماعية، بل بجمهور صناعة التجميل التي تتنافس فيها الهند ولبنان وتونس والمغرب.. ولكن يبدو أن إسطنبول سبقت للرحبة.
وإن تجولت في شارع الاستقلال أو جلست في مقاهي أورتاكوي وكنت ممّن لا يخجلون أن يمعنوا النظر في الناس ستلاحظ أن نسبة من ضمّدت رؤوسهم بين المارة فوق المعتاد، فلا تظنن أن القوم أصيبوا بكارثة ما بل هم من السياح الباحثين عن عروض “اثنين في واحد” متعة السفر وتعديل الشكل بأثمنة مدروسة. ثم لا تلبث أن تألف الأمر كأنه معلم سياحي.
مقهى “ذي هاوس” بموقعه الباذخ يمنح الزوار الكثر وأغلبهم عرب فرصة أخذ صور مع المضيق وجسر تموز واليخوت وعدد لا يحصى من المعالم. لكن ليلا، تنسحب العائلات ومعها ضجيج البحر فيُريح المبنى رجليه في البحر ويطلق العنان للموسيقى. لم يبق إلا عزاب مارقون وأسرة وحيدة عازمة على إكمال السهرة بيننا. جليسي ظل انتباهه مشدودا طويلا مع مشهد الأب والأم والصبية والبنات وهم يضجون سعادة وأعينهم تقدح بهجة. إحدى الفتيات فوق المراهقة ودون النضج، وضعت رأسها على كتف أبيها وقد غطى الضماد نصف وجهها. يبدو أن الأبوين ادّخرا طويلا لتوفير فاتورة عملية تجميل الأنف لابنتهم وإعطائها جرعة من الثقة وهي على أبواب الجامعة، وقضاء عطلة ممتعة بالمرّة. أي غمرة حبّ أجمل من هذه !
سألني صديقي على وجه المزح: كم من أب في بلدنا قادر على صنيع هذا مع ابنته؟ لم أرد حتى لا أعكر مزاج السهرة. كان بودي أن أقول: نعم، نسبة من سيبدّع وينفّر معتبرة، لكن حب الآباء للبنات قاسم مشترك بين البشر وكل رجل استطاع إسعاد فلذة كبده لن يتردّد، ولكن نسبة من لا يجد تكاليف علاج الأرنبية أو استئصال اللوزتين هي الأكثر بكل تاكيد.
*** إخلاء مسؤولية: أي تزامن لهذا الحديث مع ما حدث أو سيحدث في قطاع الإعلام المهاجر هو محض صدفة والله العظيم.