من ذاكرة الأيام..!!!/ ذاكو وينهو ( المرتضى محمد اشفاق)
كتبت مرة عن رزية تعرضت لها في شراء سيارة حاولت أن أجعل منها متعة و توجيها، ثم بدا لي أن أشرك أصدقائي الخلص الذين تطربهم مثل هذه المواقف ولا يغضبون منها غضب الصغار الضامرة حلومهم، النحيلة عقولهم، قلت أحببت أن أشرك خلصي في ثواب إمتاع القراء ويكون لي من الأجر ما لا ينقص من أجورهم شيئا…ولا أراني في هذا سادتي سيداتي ملوما….
…يعرف آباء عجول الشيخ التيجاني ولد أحمد بابو…. إذا زارك بادر إلى جذبك قائلا احذر فالسقف يوشك أن يخر لأن الحائط مائل والزاوية منفرجة أكثر من اللزوم… يحدثك عن مناخ مدينة الشيخ ابراهيم انياس وقد يصوب العائدين في وصف المسجد ويقول اسكتوا أنا أدرى منكم بهذا ، أنا من أهل مدينة، لأنه زارها عام 1957 رضيعا في حجر أمه….. إذا دقق النظر إليك فاحذر سيقول إنك أحول أو في خدك ضمور…. تاجر فاشل يبيع بأقل مما دفع شفقة على الزبناء و مراعاة للشرف العام …منظر حالم يحسب على الاحتمالات المحيرة لأهل الرياضيات و جهابذة المنطق…
هو صديق..كريم، لبيب،حازم،دقيق الملاحظة سريع البديهة،وكنا نغبطه لكثرة أصدقائه وتنوع علاقاته،فحسن أخلاقه جلب إليه معارف جمة، أما العامل الأقوى فهو سخاؤه، يتحول متجره إلى ملتقى لأصدقائه وهم ثلاث فئات : أصدقاء في العمر، وأصدقاء في العقل (الشيوخ) وأصدقاء في السياسة، لكن المتجر يبدأ في الانهيار كدالة متناقصة بعد أن يضحي مركزا لتناول المشوي والشاي….
تعهد صديقي الهادي ولد المنجى “الماليين” المارين من ألاك يحملون البضاعات الرخيصة…..وكان يشتري منهم سرا، وكلما زرناه أرانا مفتخرا بعض الأثاث: ثلاجات….طباخات…..أدوات كهرباء….أسرة… يقول إنها أحدث ما أخرجته دور الصناعة في باريس، وأن ما يستفيده منهم هو (service) خاص له نظرا لحبهم إياه.. وثق بهم ووثقوا به بل أصبحوا من أخص خواص أصدقائه……..فباعوه أجهزة زعموا أنها نادرة وأنها ليست من النفايات…و بثمن باهظ خلاف المعتاد…..وأهدوه “بيدو” (حقيبة من النعال النسائية الراقية )….وتعجل صديقنا عن تجريبها وكيف يجربها وقد باعوه من قبل أجهزة لم يكتشف فيها خللا…ثم هم كما يقول “بمباره” ويمتازون بالنبل والشرف والأمانة، وحسبهم أنهم محل ثقة الأوروبيين، وما إقامة الشيخ سيد المختار الكنتي في تلك الأرض إلا دليل على نبل أهلها وورعهم….وقد بالغ مرة حتى كدنا ننتظر قدومهم أسبوعين لنلتمس منهم صالح الدعاء….استغللنا فترة نشوته وشعوره بلذة الربح من صفقة الماليين فأطلنا المكث معه فعبثت يداه بدراهمه، وطاشت فيه ذات اليمين وذات الشمال مسرفة، وتدفقت إلينا الأشربة المتنوعة، وتراكم المشوي حتى سئمنا رائحته، وكيف لا يحصل ذلك وهو من أئمة الكرم مدفوعا بلذة الصفقات الرابحة؟!!..
رحل الماليون إلى ديارهم وحالت دونهم كتائب “بلعور” ومقاتلو ازواد….والطوارق.. والقاعدة.. ليكتشف الهادي أن الأجهزة لا تعمل، وأنها قديمة منتهية الصلاحية، ولما فتح حقيبة النعل التي أهدوها إياها تجلة وتبجيلا ليجد منها عزاء في مصيبته وجدها جميعا نعالا للقدم اليسرى … وما زلنا نعزيه – غير باكين ولا آسفين – وهو يعطس ويزعم أنه مزكوم وهو في الحقيقة مصدوم حتى شاع خبر لحم محمد /حامد ….
محمد رجل ذكي لحد الدهاء…طريف..نبه لا يفوته دبيب النملة في الليلة الظلماء بين أخاديد “اجينت”وهو الجدار الطيني الواصل بين بوكى دو وبوكى أسكال…حذره يشبه الجبن…خزان للأخبار النادرة…يعرف كم شعرة في شارب أستاذ الفيزياء،خبير بالأقوال الشاذة في فقه النوازل ….احتار ثم اختار….كان لحما جيدا لا يشتكى منه شحم ولا هزال….اشترى خمسة كيلوات حمراء خالصة لا عظم فيها ولا مصران…..حولها إلى سيور رقيقة سريعة الجفاف خصوصا في العشر الأواخر من أيار…..اطمأن زميلنا النبه، الحاذق الفطن أنه أعد نصرا محققا على شهر ونصف من صيف “لمدن” ….فالحواضر تعاني في تلك الفترة من شح في مادة اللحوم…
كان يحدثني – وقد غطت سيور اللحم الرقيقة حبالا اشتراها لذلك الغرض – عن جودة اختياره فلم يبق لحم على وضم إلا وقف عليه، فتارة تصرفه الشحوم الزائدة، و طورا الصفرة الغالبة على بعضها، حتى ساقه حظه السعيد إلى لحم عجل سمين لين تحت الأضراس، سلس في البلاعيم…وما زال يسخو على اختياره، ويتفنن في الثناء عليه، حتى أحسست بملوحة ريقي وكدت أتذوق طعم القديد في فمي….فزاد قائلا إن تجفيفه إياه في الظل أمر موصى به، وواق من التسمم كما قال له أحد أقاربه الأطباء… دروس في الطب والاقتصاد والذوق الرفيع هي أكثر حديث صديقي في تلك الليلة المشهودة… أقنعني بإلغاء سمرنا عند أهل أحمد بابو نظرا للحر كما يزعم، والحق أنه يريد أن نبقى حراسا للحم، ولما اظلم الليل استلقينا تحت العريش تتحرك فوقنا السيور في رقصة هادئة على موجات رياح حزيران المبشرة بالأمطار…وكان زميلي غارقا في جو من البهجة والشعور بلذة الانجاز دفعاه إلى شراء كمية من لبن الإبل نشربها بعد العشاء رشوة لي لأنسى إلغاء سمرنا الذي كان مقررا….
هجم علينا النوم بكامل عدته فلم نستيقظ إلا وعالي ولد ارشيد يقول : الصلاة خير من النوم….
كان في جانب آخر من الحي عصابة تراقبنا، وتتحسس حركاتنا، وتتسمع همسنا، حتى إذا استسلمت الأجسام منا للموت الأصغر، نفذ الكوماندوس عملية لم تبق ولم تذر…ما كنا ندري ما يخبئه الليل في تجاويفه من طوالع النحس، وفوادح الشرور…. وإذا في ساق منكوبنا جرح دام من آثار معركة القطط هو كل ما بقي له من جهد أمس…ألا بعدا لقطط حي مدينه ما أفدح ما صنعت.. ومع أن عملها عدواني وجبان ومدان ….ومؤازرة صديقنا في تلك المحنة القاسية أمر مطلوب، إلا أننا عشنا بتلك الرزية أيام متاع لا تنسى…
صديق آخر، قلمس ثبيت، حسن السمت، كيس الطبع، موزون المقال، موفق الفعال، تتدفق منه الحكمة كنور من لسان فجر،لا يعرف فجور اللفظ ولا فحش العبارة،انبهر بالأستاذ منجي الحجري وأجازه في البيان والتبيين، والتحليل والتأصيل، قبل أن ينبهه صاحبنا أن الدروس كانت نقلا بالفاصلة من حديث الأربعاء لطه حسين، وأعلمه أيضا أن مديرة المؤسسة لها لحية،،،
أبرقت لزميلي محمد ولد حامد يوما مبشرا إياه أن حيبنا فقد في يوم واحد هاتفين وأربعا من المعز كريمة أحسابها،غزيرة ألبانها،فكاد يعتق بقرته من الحلاب ثلاث ليال تباعا ابتهاجا بهذا النبإ العظيم،،، كنا نتحين فرص الانتقام من حيبنا نظرا لهدوئه، وحسن سمعته في المدينة، وتصنيف الشيوخ له عدلا مزكى الطباع، واعتباره عضوا بالاستحقاق في فئة الحكماء ،وكل ذي نعمة محسود، حتى اكتشفنا أنه ضعيف أمام الضحك المباغت في الأوقات الحرجة، فيكفي أن يكون في المجلس المهيب يتكلم بوقار وأدب فتحنحن للفت انتباهه ثم تغمز بعينك لينسى هذا الموطأ الأكناف الجمع وأدب المجلس ويدخل في نوبة ضحك لا تبقي من وقار شيبة ولا تذر،،،
حدثني غير مجروح على شرط محمد ولد حامد قال كدنا لحيبنا يوما وهو يسلم على شيخ من أهل المدينة، وقور ،حامل لكتاب الله تربطه به علاقة قوية خاصة لا يصان عنها احترام و لا توقير، ينظر إلى الأرض في انحناء المهذب، وهدوء المؤدب، ويرد التحية بأحسن منها، فأمرنا أحد حساد سمعته بالالتحاق به ورآها غنيمة لا يفرط فيها، فسلم همسا على الشيخ باللغة الفرنسية والشيخ يرد بكياسة ولباقة، ويدعو له بالفتح، فانتصرت الضحكات المكبوتة وندت من محبسها، ونحن نقول الحمد لله ذلك ما كنا نبغي…
اسليمان دمبلى رجل من أعيان المدينة نعتبره والدا، كان طبيبا في المستوصف ولما تقاعد فتح متجرا صغيرا على الشارع الكبير، كنا نسلم عليه ونشتري منه تارة، لكن اسليمان قليل الكليان ، وكلما مررنا به متوجهين إلى الثانوية – ونحن أساتذة – وسط أفواج من التلاميذ أحيانا، نادانا في أبوة :هيه حيبنا..محمد .. الهادي .. وأنت (يتعذر عليه النطق باسمي) تعالوا اشتروا من عندي أنا من ختنكم…