الشعراء وهديل الحمام/ حماه الله ميابى
وجد العربي في هديل الحمام بكاءً حزيناً يلقى صدى في نفسه المكلومة بالشوق والحنين، وكثيراً ما سمعنا الشعراء يعاتبون الحمامة لأنها تنوح نواحاً كاذباً، فهي لا تذرف الدموع في حين أن نواح الشاعر يكون مصحوباً بالدمع الهتون، كما هو حال الشاعر عوف بن مُحلم بعد أن سمع نوح حمامة:
وأرقني بالري نوح حمامة
فنُحتُ وذو الشجو الحزين ينوح
على أنها ناحت ولم تذْرِ دمعة
ونُحت وأســـراب الدمـــوع سفوح
ألا يا حمام الأيك إلفُك حاضرٌ
وغصنك ميادٌ ففيم تنوح
أَفِق لا تنح من غير شيء فإنني
بكيت زماناً والفؤاد صحيح
أما الشاعر الوقافُ ورد بن الجعد فيجد نفسه أصدق في بكاء المحبوبة من الحمامة، إنه يواصل الليل بالنهار في البكاء.. أما هي فتهجع!! وهو يبكي حقاً وصدقاً أما هي فإنها كاذبة، فيقول:
أحقاً يا حمامة بطن وادٍ
بأنك في بكائك تصْدُقينا
غلبْتكِ في البكاء بأن لَيْلي
أواصله وأنك تهجعينا
وأني إن بكيت بكيت حقاً
وأنك في بكائك تكذبينا
ولأن البعض يعتقد أن الحمامة تدعو في بكائها هديلها وهو ذَكَرُها الذي تحن إليه باستمرار، وجدنا الشاعر جهم بن خلف المازني يتمثل ذلك شعراً عندما قال في حمام منطقة تبالة في اليمن:
وقد هاج شوقي أن تغنت حمامة
مطوقة ورقاء تصدح في الفجر
هتوفٌ تُبَكِّي ساق حر ولن ترى
لها دمعة يوماً على خدها تجري
تغنت بلحن فاستجابت لصوتها
نوائح بالأصياف في فنن السّدْرِِ
بسرة واد من -تبالة- مونقٍ
كسا جانبيه الطلح واعتمَّ بالزهر
وفي أبيات أخرى لجهم بن خلف المازني:
مطوقة كســـــاها اللـ
ـه طوقاً لم يكن ذهبا
جمود العين مبكاها
يزيد أخا الهوى نصبا
مفجّعة بكت شجواً
فبــــت بشـــــجوها وَصِـــبا
على غصن تميل به
جنوب مرة وصَبَا
ترن عليه إمَّا مَا
لَ مـــن شـــــوقٍ أو انتصــــــبا
وما فغرت فماً وبكت
بلا دمع لها انسكبا
وأما الشاعر شفيق بن بعلبك الأسدي فقد هيجت حمامة ما حاول كتمانه من الوجد، فدعاها ليتباكيا معاً على ذكريات سلفت وليتبادلا أحاديث الحب والهيام ما خفي منها وما بدا، ثم يطلب منها أن تساعده على البكاء فيبكيا معاً، وإلا فإنه سيبكي وحيداً. فيقول:
لقد هَيجت مني حمامة أيكة
من الوجد وجداً كنت أكتمه جهدي
فقلت تعالي نبْكِ من ذكر ما خلا
ونذكر منه ما نُسرُ وما نُبدي
أما أبو فراس الحمداني وحمامته فهما أشهر من أن يذكرا. فقد استمع إلى هديل الحمامة وهو في الأسر فعاتبها، لأنها تنوح وهي متمتعة بالحرية. ويعجب من حالته التي جعلته يضحك وهو الأسير المكبل بالأغلال، وتبكي الحمامة وهي تنعم بنعمة الحرية التي يفتقدها الشاعر. فهو أجدر منها بالبكاء، ولذا نسمعه يقول:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقتِ طارقة النوى
ولا خطرت منكِ الهمومُ ببالِ
أيا جارتا ما أنصف الدهرُ بيننا!
تعالي أقاسمك الهموم، تعالي!
تعالي تري روحاً لديَّ ضعيفة
تَرَدَّدُ في جسم يُعذّب بالِ
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة
ولكن دمعي في الحوادث غالِ
ويهيج نوح القمري أشجان الشاعر تميم بن المعز وتحرك أشواقه لفراق أحبته. فيقول:
أإن ناح قُمري بغصنِ بشامةٍ
وغرّد في أعلى الأراك حمامُ؟
أهاج لك التذكار شوقا كأنما
له بين أحناء الضلوع ضرامُ
مطوقة ورقاء تندُبُ شَجْوهَا
وتسهرُ فيه الليلَ وهو تمام
تنوح بلا دمع وللحزن آية
على نوحها مشهورة وغرامُ
ألا يا حمام الأيك مالك والِهاً
كأنّك ممن أسكرته مُدامُ
كلانا محب صدّع البين شمله
وكل محب بالفراق يضامُ
سلام على من حجَّبَتْ شخصه النوى
وإن كان لا يغني المحبَّ سلامُ
وفي الختام نورد أبيات الشاعر عبدالله بن الدمينة الشهيرة التي يقول فيها:
ألا يا صبا نجد متى هِجْتَ من نجدِ
فقد زادني مسراكَ وجْداً على وَجْدِ
أإن هتفت ورقاءُ في رونق الضحى
على فنن غض النبات من الرندِ
بكيت كما يبكي الوليد ولم أكن
جليداً، وأبديتُ الذي لم أكن أبدي