منوعاتموضوعات رئيسية
القرية والمطر تلك النشوة الحالمة!/ باتة بنت البراء
الساعة العاشرة والنصف ليلا، إنها القرية، وبدأ أهل المنزل استنفارا جماعيا لضيافة القادمين، جلست صغرى البنات تعد الشاي بتباطؤ مقصود مغطية بذلك الوقت الكافي لإعداد وجبة للقادمين، أما الأم فانشغلت بإعداد أقداح الشراب(الزريق)، وبادر الأقارب والمحتفون من الدور المجاورة لملاقاة الضيوف، ذاب غبار الرحلة مع لقاء الأحبة، وكان اللقاء دافئا حميما، استمر معه السمر يحمل كل عبق الذكريات ، وكل تلافيف الماضي، وانفض الجمع و البرق يلمع بالأفق الشرقي مظللا مزنا ثقالا ما لبث نوءها أن ادلهم يحدوه هزيم الرعد. آه القرية والمطر! تلك النشوة الحالمة التي ظلت تسكنها منذ البعيد البعيد، ترافقها هاجسا على مر الأيام، ذلك الموسم الذي كان لا يختل على مدى طفولتها ومراهقتها،تتحينه مسكونة بالشغف والشوق ، وهي تراقب أسراب الطيور من حولها تملأ المكان أنسا بعد رحيل الطلبة والمعلمين، ورحيل الأحياء البدوية التي تقوض خيامها وتنأى بعيدا عن حمى القرية ، كلما بدأ موسم الأمطار. في شهر يوليو تأخذ السحب موقعها في صفحة السماء ، وتتخذ أشكالا عديدة كانت تأخذ وقتها لتتبعها وتحصيها ؛ فهذه مزنة تأخذ شكل ادهيمه؛ ضاربة الطبل بتسريحتها المشنفة، وأنفها المسطح وعينيها الغائرتين تحت جبين ناتئ، والتي تليها تأخذ شكل الراعي محمود وهو يفرغ دلوه في الحوض، أما تلك المزنة المنبسطة فهي تشبه قطيعا من البقر يرعى العشب، وتظهر في الجنوب الشرقي أخرى بصورة غول عملاق يحمل بيده اليمنى سطلا وبالثانية، إبريقا كبيرا، صورة لا تخطئها العين إذا تمعنت هذه المزن المنتشرة. كان موسم الأمطار أيامها واعدا، فمع منتصف شهر يونيو تغلق المدارس أبوابها، وتبدأ الغيوم الكثيفة تغطي صفحة السماء، وتدب حركةدؤوب في عالم الطير؛ فتأخذ في الزقزقة المتواصلة، وبناء الأعشاش بين أغصان الشجر الوارف ، فتمتلئ أشجار السردين بالعناقيد المتدلية من اأعشاش وكأنها ثمار تتفاوت في حجمها، ولونها. تظهر حديقتهم وكأنها محميةة طبيعية لكثرة الأشجار، والطيور المعششة والمتجاوبة فيها، يرزم الرعد ظهرا، ويتواصل هزيمه الهادر، ويغطي الأفق الشرقي من وراء الكثيب الرملي الناصع نوء كثيف، يشتد تلاحمه، ثم ما يلبث أن يبدو بلون أزرق غامق، وأخيرا يضرب إلى الكدرة والسواد. تبادر جدتي فتطوي خباءها لتدخل معنا في الدار، ويرزم الرعد أكثر ،ويدنو النوء شيئا فشيئا، وتهب أولى تباشير الرياح أمامه، أتطلع إلى خباء عائشة فإذا بها تطنبه منخفضا حتى تلامس أطرافه الأرض، وتدير السجف من حوله ،ثم تحكم الزريبة على الماعز، كثيرا ما أسأل جدتي: – ألا أذهب إليها لتأتي عندنا؟ – لن تقبل بالمجيء، والله لطيف بعباده، ومتى عرفنا الدور يا بنيتي؟ لقد ولدنا وعشنا كل حياتنا تحت الخيم، وكانت الأمطار أكثر غزارة والريح أشد وطأة. تبدأ العاصفة هائجة يصاحبها وقع حبات المطر المفرقعة على السقف الزنكي، ونتجمع كلنا في الركن حول الجدة، نهلل بصوت عال، وحين يخطف البرق الأبصار نغلق آذاننا، ثم ما يلبث أن يتلوه الصوت المتواتر الذي يهز المكان، متتابعا كسقوط صخرة في البئر. تبدأ جدتي تنشد المديحية المأثورة في أوصاف الرسول صلعم: لقد كان خير الخلق أبهر طلعة++ من البدر بل من شمسه هو ألهب جميل المحيا أزهر اللون أبلـــج++ بهي بهيـــج الوجـــه ليس يقطب وكثيرا ما تخرج الجدةمصحفها بغلافه الجلدي الأحمر المزركش، وتضعه على مقربة منا، أما أمي فتاخذ حفنات من الأرز، وقطعا من السكر ، فتديرها فوق رؤوسنا، لتتصدق بها بعد انتهاء المطر. ورغم حبي الشديد للمطر وترقبي لموسمه الجميل، فقد كنت أرهبه كثيرا وأنذر النذور التي لا أستطيع الوفاء بها ، كنت أتمنى أن يأتي مطر بدون عواصف أو رعود. يستمر المطر أكثر الأحيان ساعات طويلة تمتد إلى الليل، وأحيانا يستمر طول الليل ونبقى جالسين بدون حراك، وبدون عشاء، فراعي البقر محمود لا يمكن أن يحلب أبقاره والسماء منهلة السحاب. نحاول أن ننام ولكن فرقعة الصواعق، وأوامر جدتي بأن نواصل ذكر الله، يقطع أملنا في النوم الهنيء الذي نحاول أن نغيب فيه عن عالم المطر ورهبته. عندما يتوقف المطر أبادر بالنظر من النافذة ،أو من باب الفرندة ،فأرى خباء عائشة صامدا كما رأيته قبل نزول المطر، وكثيرا ما أجدها أوقدت النار أمامه لتصطلي عليها الماعز. في الصباح يكون جو القرية رائقا؛ تأتي عائشة متفقدة أحوالنا وهي تحمل أخبار المطر ، وتظهر أبقار الخريف الحمراء القانية ، وكأنها نزلت مع المطر، فنجمعها في حظائر من الثرى، وكلما جمعنا منها قطيعا ، انفلت منا ونحن نجمع البقية، أما أعشاش الطيور فتبقى معلقة هي الأخرى بخيط رفيع، وكأن عصف الرياح، وزخ المطر جانَبَهَا، وتظهر أسراب الطيور مزقزقة شادية احتفالا بالموسم الجديد. يمتلئ غدير اميحيم في وسط القرية ماء زلالا، ويتوارد الأولاد من كل حدب وصوب يسبحون ويتراشقون بالماء والطين ، وهو ما يثير حفيظة الأمهات فيأتين لأخذ الأولاد خوفا من إصابتهم بحمى الملاريا. آه ! تنكرت أيتها القرية الفاتنة، أحتاج إلى أن أتعرف عليك وأكتشفك من جديد، كيف تمددت بشكل عشوائي، وأصبحت تضمين كل الأحياء البدوية القريبة والبعيدة؟ عندما كنتِ طفلة كان طقسك مذهلا، ومريدوك قليلين، لم يكن يقطنك إلا قليل من الأسر لا يتجاوز عد الأصابع، لا يهمهم الظاعنون أيام المواسم بحثا عن المراعي، ولا العابرون المستقون من البئر، أو المشترون من الحانوت الوحيد الذي كان عماد القرية الاقتصادي، بل كانوا يرابطون فيك صيفا وشتاء، ربيعا وخريفا. وعندما يرجع المدرسون والطلبة مع بدايات شهر اكتوبر، تشهد القرية الوادعة وقتها نشاطا وحيوية تستمر نهارا، وتخف ليلا حين يقصد التلاميذ الأحياء المجارورة. لا يتعرفون على القرية إلا في أوقات الراحة، فيرسمون على جدران المنازل رسوما مشوهة بالفحم ، ويتخذون من السواتر الخالية مكانا للتبول، ويذللون الحمر الناعسة حول الدور، ويضربونها بالعصي لتقطع بهم الطريق السالك من البئر إلى الحي. أما حديقة بيتنا فيتوقفون عند