قصة قصيرة.. “الحُبُّ في زمن الحرب”/ نهلة غسّان طربيه
15 فبراير 2022، 00:28 صباحًا
على درب الثلج..
كومة حُبٍّ أبيض..
له رائحة صنوبرة حنانها أخضر.
حين كان ضجيج المعركة يصمّ أذنيْها.. هربَتِ البنيّةُ الغارقة في حُمرَةِ معطفها الشتويّ الدافئ.. هربَتْ من صوتِ الأحزان.. من صوتِ الكراهية المُرعب.. وبيدها فنجان قهوة دافئ دافئ.
في يدها الثانية كانت من وطنها الغارق مابين حُبٍّ وحُبِّ.. مابين وعدٍ ووعدِ.. قطفةُ صنوبر صغيرة.. ووردةٌ حمراء.
هي وحدها تعرف أنّ في عمق ذانيكَ اللونين البديعين : الأخضر والأحمر.. تخفق قلوبُ أحبابٍ هناك.. وأحبابٍ هنا. في عمقهما دربٌ تائهة لا تعرف أين تبدأ ولا أين تنتهي.
ذاتُ المعطف الأحمر الدافئ.. راحتْ تمشي الهوينى على ذيّاكَ الرصيف.. وصوتُ كعب حذائها العالي يتشظّى موسيقى.. كي تكتمَ أنفاس المعركة هناك.. نعم.. بحذائها الذي كان يعلو صوتُ وقْعِهِ على حجارة الرصيف السّاكنة المُحايدة.
“شكراً يا أيها الرصيف فقد دبَّتْ في أوصالكَ الميتة مياه الحياة.” هكذا قالت إذ أهداها فجأة مقعداً دافئاً. حين استراحتْ عليه، سقط كثير من الثلج، فغطّاها بدفء. ” ما أجمل الثلج الدافئ يهمس ولهاناً لفنجان القهوة في يدي الباردة.” هكذا أضافتْ بصوتٍ مرتفعِ.
مرّ من هناك في تلك اللحظة طفلٌ حافي القدمين. رأتْه بأمّ عينها يشير بإصبعه إلى السّماء.. ثمّ ينحني.. ويلملم من على الرصيف أمامها قلوباً حمراء صغيرة.. وهو يضحك من عمق قلبه.. ضحكةً تمزّق وجومَ الرّصيف.. وجومَ الوجوه شبه الميتة التي تعبر من هناك كالجثث الحيّة. ابتسمت البنيّة بنشوة كبيرة وهي ترشف قهوتها اللذيذة اللذيذة. رأتْهُ فجأةً يلعقُ بطرف لسانه مُصاصةً حمراء من السّكَّر على شكل طائرة ورقية.
أدركتِ البنيّةُ حينها أنّه مقدَّرٌ عليها أن تكون دائماً رسولةً للحبّ في كلّ الفصول.. فهي كانت كما تذكر تعيش يوماً في السماء.. نجماً صغيراً صغيراً لايكفّ عن الضياء.. أو هكذا رُبّما خُيِّل إليها وهي ترمقُ السعادة المرتسمة على وجه ذاك الطفل.
عليها الآن إذاً ألّا تُنهي قهوتها التي تمدّ جسدها البارد بشيء من الدفء اللذيذ. فالهمس مابين الثلج وبخار القهوة حَريٌّ به أن يكتب قصّة حبّه في الهواء لها.. لهذا الطفل.. و عددٍ لايُحصى من بائسي المعمورة. تذكَّرَتْ بسرعة أنّها رأت قصّة الحبّ هذه منذ فترةٍ قريبة.. رأتْها على حائطٍ مُهْمَلٍ في قريتها الجبليّة الجميلة التي زارتْها في الخريف المنصرم في عزّ الحرب.. مكتوبٍ عليه: (لَها الحُبّ).
اقترب الطفل منها وأخذ من يدها الوردة الحمراء وقطفةَ الصنوبر. أعطاها قلباً من القلوب التي لمْلمَها من على الرصيف. سمعتْه يقول بصوت خافت:
“هل أنتِ أمّي؟ أنا الذي خرْبَشْتُ ( لَها الحبّ) على ذلك الجدار.. لَها.. لأمّي التي لا أعرفها. ماتت أمّي وهي تلدني. لَها.. لقريتي الجميلة.. لَها.. لبلدي الذي أحبّه كما أحبّ أبي وأمي. لَها.. لهذه المُصاصة السّكّريّة الحمراء التي كنتُ دائماً أتوق لشرائها.”
نظرتِ البنيّةُ في عمق عينيه وقالت: “الحُبُّ.. بلى.. هو لكلّ الفصول. هو للأمّ والأب.. للأولاد.. للأجداد. الحُبُّ هو للصغار والكبار.. لوطن الآباء والأجداد.. للمدينة.. للقرية.. للشجر.. للزهر.. للمنفى.. للموسيقى.. لمصاصةٍ حمراء سكّريّة.. للّه.