فيلم “أمهات متماثلات” محاولة لفهم ماضي إسبانيا المضطرب من خلال قصة امرأتين معاصرتين/ علي المسعود
4 مارس 2022، 00:01 صباحًا
“أمهات متماثلات” فيلم يستحضر جانباً من حياة واقعية مستمدة من ذاك الفصل القاتم في التاريخ الإسباني وفي بداية الحرب الأهلية الإسبانية التي دامت من 1936 إلى 1939 . تدور الأحداث في محيط ريفي حيث توجد مقبرة جماعية في بلدة فيلادانغوس ديل بارامو ” التي لا يزيد عدد سكانها على 800 نسمة والواقعة في شمال إسبانيا ، . وكانت هيئة محلية في القرية المذكورة قد صوتت بالموافقة على التنقيب في مقبرة البلدة لمحاولة العثورعلى رفاة 71 شخصاً أعدمهم الجنرال فرانكو (خلال الحرب) ، المخرج “بيدروالمودوفار”تحدث عن هذا الأمر، فقال “المجتمع الإسباني مدين بدين أخلاقي كبير للعائلات التي اختفى أفراد منها قسراً ، بعد 85 سنة وإلى أن يتم تسديد هذا الدين للمختفين لن يكون بوسعنا طي صفحة تاريخنا وما حصل خلال الحرب الأهلية”.
الفيلم مستمد من أحداث واقعية ، وعلى منوال الشخصية التي تؤديها “بينيلوبي كروز ” في فيلم ألمودوفار، كانت الصحافية أولغا رودريغيز تبحث طوال سنوات عن رفاة جدها الأكبر (جد والدها) سانتوس فرانسيسكو دياز الذي أختفى مع 71 سجيناً حين أخذوا من معسكر اعتقال في ليون شمال إسبانيا وأعدموا عند ناصية طريق قرب فيلادانغوس ديل بارامو . وتمثلت جريمة فرانسيسكو دياز الوحيدة بانتمائه للاتحاد (الحكومة الجمهورية) ، وخلف وراءه 7 يتامى ، أصغرهم كان رضيعاً بكنف زوجته الأرملة ، دياز الذي أعدم من دون إدانة أو محاكمة كان بعمر الـ 39 حاولت تلك العائلة معرفة مصير وموقع رفاة فرانسيسكو . فيلم المخرج الاسباني ألمودوفار هذه المرة يروي قصة شخصية وسياسية في نفس الوقت . إنها حكاية حميمة عن امرأتين وحياتهما المتشابكة ولكنها أيضًا تتناول تاريخ إسبانيا المضطرب ، تبدأ القصة في فصل الشتاء لعام 2016 ، الممثلة بينلوبي كروز في دور جانيس وهي مصورة في مجلة نسائية تديرها صديقتها المقربة إيلينا (روسي دي بالما) تعيش في مدريد وعلى وشك بلوغ سن الأربعين ، جانيس التي سميت على اسم المغنية جانيس جوبلين -( جانيس جوبلين مغنية وكاتبة أغاني أمريكية ) .
في بداية الفيلم تظهر جانيس (بينيلوبي كروز) المصورة الصحافية في جلسة تصوير مع ” أرتورو ” عالم الانثروبولوجيا وتطلب منه مساعدتها في العثور على رفات جدها الأكبر ( والد جدتها ) الّذي اعدمته القوات الموالية لفرانكو بسبب معارضته لنظام الحكم وتخبره بانه في قريتها مقبرة جماعية فيها عشرات الجثث ومنها جثة والد جدتها الذي كان مدرسا ومصورا ، قبل مقتله صور كل رفاقه الذين ماتوا وحفظت جدتها أسماءهم في دفتر ملاحظات. وتعرض له صور كل الضحايا المحفوظة على جهاز الكمبيوتر . ولكون( أرتور) أحد أعضاء جمعية خيرية تطوعية لها علاقة لأستعادة الذاكرة التاريخية وهي مؤسسة ثقافية تتعامل مع الجذور الثقافية للناس في نافارو ، جانيس وعائلتها مثل العديد من أحفاد أولئك الذين قتلوا يريدون فقط دفن جدها الأكبر .
تنشأ بين جانيس وأرتورو (إسرائيل إليجالدي) عالم الآثار الوسيم والساحر أيضًا علاقة غرامية ، لكنها تنفصل عنه بعد أن صبحت حاملاً لكونه متزوج و تكافح زوجته مرض السرطان في ذلك الوقت ، يتضح عنوان الفيلم عندما تدخل آنا (ميلينا سميت) الشابة ذات 17 عاما وهي حامل أيضًا وزميلتها في غرفة مستشفى . (جانيس) أكبر سنا ولا تشعر بالندم على ما حدث وتواجه الأمر ببهجة ، بينما الأخرى «آنا» مراهقة وتشعر بالخوف والندم والصدمة و تبدو في حالة من اليأس والحزن ، وأتضح سبب هذ الحزن فيما بعد إنها حملت بطريقة مؤلمة للغاية (أجبرها العديد من الشباب على النوم معهم تحت تهديد تسريب شريط جنسي) وتحاول جانيس تشجيعها وهي تتحرك مثل السائرين عبر ممرات المستشفى . الكلمات القليلة التي يتبادلونها في هذه الساعات ستخلق رابطًا وثيقًا للغاية بينهم ، تلد جانيس( سيسيليا) وآنا طفلة أيضاً وأسمتها( لأنيتا) . يتم وضع الأطفال تحت المراقبة قبل إعادتهم إلى أمهاتهم . وجدت المرأتان نفسيهما على اتصال بطرق لا تعد ولا تحصى وغير متوقعة خلال واحدة من أكثر الأوقات ضعفًا وإثارة في حياتهما و يتشاركون لحظات الابتهاج والإرهاق . هناك شخصية والدة آنا تيريزا (أيتانا سانشيز خيخون) وهي ممثلة نرجسية تعشق عملها في المسرح وتتوهج حقًا عندما تتحدث عن أدائها الجيد في الاختبار وهي تؤدي دورها في مسرحية لوركا وهذه اشارة ذكية من المخرج لأن الشاعر لوركا هو أحد ضحايا نظام فرانكو و وقد أعدم ولم يجد له رفات .
عندما تنفصل الأمهات الحديثات الولادة ولكل منهما ابنة حديثة الولادة يتبادلان أرقام الهواتف مع ووعود بالبقاء على اتصال . بعد رفض البنت المولودة من قبل ألاب ” أرتو “وشكّوكه بنسبها لانها سمراء ولاتشهبه ، تثور جانيس وتطرده من البيت ، ثم يحدث بعد شهور أن تكتشف يانيس أن الطفلتين تم استبدالهما بالخطأ في المستشفى . وأن طفلتها ما هي إلا طفلة الفتاة المراهقة آنا . وتحاول أن تهرب من مواجهة هذه الحقيقة الصادمة وتقطع الاتصال بكل من حبيبها أرتور والأم آنا ، لكنها تلتقي الفتاة( أنا) بالصدفة وتعلم أن إبنتها ماتت وتدعوها للإقامة في بيتها . يأتي صديقها عالم الأنثروبولوجي(أرتو) ليخبرها أن الجمعية وافقت على التنقيب عن المقبرة الجماعية ، وأنه إنقصل عن زوجته بعد أن أخبرها بعلاقتهما . إلى هنا تسير الميلودراما الاجتماعية في طريقها المعتاد نحو ذروة الأزمة، حيث تبدو كل الطرق مسدودة وكل الحلول مؤلمة .
في الصباح التالي يدور الحوار بين جانيس وصديقتها التي تشعر بالغيرة حول زيارة عالم الأنثروبولوجي. وعندما تخبرها حول مشروع التنقيب عن المقبرة الجماعية تقول الفتاة الساذجة ” يجب أن ننظر إلى المستقبل وإلا ستنتهي حياتنا بإعادة فتح الجروح القديمة ، تثور جانيس عليها ” من الذي أخبرك بذلك، والدك؟ ، حان الوقت لتفتحي عينيك على البلد الذي تعيشين فيه ، يبدو أن أحدا في عائلتك لم يخبرك عن بلادنا ، هناك أكثر من مئة ألف مدفونون في خنادق وعلى أطراف المقابر يرغب أحفادهم وأبناء أحفادهم في دفنهم بشكل لائق كما وعدوا أمهاتهم ، وإلى أن يحدث ذلك لن تنتهي الحرب “. في الأسابيع التالية ، توصلت جانيس إلى الاعتقاد بأن الطفلين تم تغييرهما بطريقة ما عند الولادة . ومن المؤكد أن اختبار الحمض النووي الخاص يثبت أن الطفلة ليس طفلتها. تحتفظ جانيس بهذه ألاسرار الكارثية لنفسها ، جنبًا إلى جنب مع الشكوك الأخرى التي تثيرها – في الواقع ، تمر 90 دقيقة كاملة قبل أن تجرؤ على توضيحها. لكننا ندرك على الفور ما تفكر فيه ، وأحد أعظم ملذات الفيلم هو التواجد في هذا السر غير المعلن ، والشعور به يضغط على كتفيك بينما تتطور صداقة جانيس وآنا وتزداد حدتها . نجح المخرج المودوفار كعادته في حشد التفاصيل وتأطيرها بمفرداته المتميزة من أزياء وديكور وموسيقى وملقياً الضوء على فترة مهمة من تاريخ إسبانيا دامجاً الاجتماعي بالسياسي ومبرهناً على أن الطريق الوحيد نحو المستقبل هو الحقيقة . الفيلم لكنها تتراجع بعد ذلك عندما نركز على قصة الأمهات ، لكن الحكاية المركزية هي قصة الأمهات وهي رواية مثيرة ودراما تستكشف تحديات الأمومة وتحقيق التوازن بين العمل والأسرة . ينغمس المخرج بشكل غير معهود في السياسة ، من خلال التركيز على الألم الذي خلفه نظام فرانكو الفاشي والذي “فقد” خلاله أكثر من 100000 شخص . تحدث المخرج في مقابلة “قبل عشرين عامًا ، كان ثأري من فرانكو هو عدم الاعتراف بوجوده وذكراه ؛ لجعل أفلامي وكأنه لم يكن موجودًا من قبل . اليوم أعتقد أنه من المناسب ألا ننسى تلك الفترة ، وأن نتذكر أنها لم تكن منذ فترة طويلة ” . ينتهي الفيلم بعرض صورة للمقبرة الجماعية المفتوحة واقتباس من الكاتب (إدواردو غاليانو) ” لا وجود لتاريخ صامت ، مهما أشعلوا النار فيه ومهما حطّموه ومهما زوّروه، فإنّ التاريخ البشري يرفض الصمت “.
في فيلم “أمهات متماثلات” ، كان المخرج الاسباني بيدرو ألمودوفار راويًا بارعًا ينظر إلى الأمومة المنفردة من منظور التشويق الانساني لتلك العاطفة . يدرك أن كل من جانيس وآنا تتحملان عبئًا هائلاً . ومع تطور أوضاعهما ، يبقينا الفيلم على اتصال بكيفية تشابك العاطفة والقلق الخاصة بالأمومة . تظهر كروز امرأة تواجه كل التحديات وهي محاربة وفي مواجهة متعددة المهام وهي أم محبة ولكن يائسة تشعر بأن القدر قد تخلى عنها . “أمهات متماثلات” هو فيلم يتفاعل مع الحياة والموت ، ميلينا سميت تمنح آنا تحدي يكون عنيدًا ومثيرًا للإعجاب . تبدأ كفتاة مراهقة نادمة على حملها لكننا نرى كيف تعيد الأمومة تكوين روحها وتزيل رعبها وتستبدلها بالقوة والتركيز. لفترة من الوقت . الموسيقى التصويرية لألبرتو إغليسياس والتصوير الفوتوغرافي لخوسيه لويس ألكين كانا مميزين . كل هذا يجعل الفيلم تعاونًا رائعًا للفنانين “. قال إغليسياس في لقاء خاص معه “لقد اتبعت فكرة التوازي في بنية الموسيقى و لم أعطي كل شخصية موضوعًا ؛ كانا اثنان لكنهما كانا واحدًا في نفس الوقت “. على الرغم من أن ألمودوفار يعطيه بشكل روتيني نصًا ليقرأه إلا أن الملحن يفضل الانتظار حتى يرى جزءًا من الفيلم قبل أن يلزم نفسه بأفكار موسيقية قوية. وفي هذه الحالة تبدأ أكثر اللحظات حدة في الفيلم حين تعرف شخصية كروز حقيقة طفلها . يقول: “كانت هذه هي روح الفيلم”. تابعتُ أنفاس الممثلة ؛ كان دليلاً لي مليئًا باللقطات المقربة. وجهت الموسيقى إلى تشويق هذا المشهد وهذا منحني إمكانيات لمشاهد أخرى ” . عند سؤاله عن علاقته مع المخرج “بيدرو المودوفار” التي دامت 13 فيلمًا ومدتها 26 عامًا ، قال إغليسياس: “إنها حياتي. لقد شاركنا الكثير من اللحظات الصعبة والعظيمة. لقد كان نوعا ما سيدا بالنسبة لي. إنه ليس موسيقيًا ، لكنه يطلب مني دائمًا تفادي التقاليد ، وإيجاد طريقتي الخاصة ، وأفكاري اللحنية . يراني كفنان. أحيانًا يقول ، “فاجئني بشيء ما”. إنه لأمر جيد جدًا أن يكون للملحن هذا النوع من العلاقة مع مخرج ، لأنه عليك وضع كل ما لديك في رأسك ، روحك ، في الفيلم لأ نك تعمل من أجل الفيلم ” .
في الختام : فيلم “الأمهات المتماثلات ” هو فيلم يستخدم قصة امرأتين معاصرتين في محاولة لفهم ماضي إسبانيا المضطرب وهو أكثر أفلام المودوفار السياسية غرابة . يفترض ألمودوفار أن المواقف السياسية لإسبانيا لم تتغير أبدًا إنه يستخدم الماضي كإلهاء عما ينبغي أن يكون مهمته في الحاضر في مواجهة النفاق والنرجسية والارتباك بين الجنسين في الحاضر ، لوحة مكثفة وملموسة لامرأتين تواجهان مشاغل الأمومة وسط تقلبات ومنعطفات لا يمكن التنبؤ بها ، سيدتان تتحدان لمواجهة فرح وآلام الأمومة ؛ القتل التاريخي للمدنيين إنهما مرتبطان في الفيلم .