“الشيخة” .. صانعة الفرجة المحبوبة ليلا المنبوذة نهارا / الصديق أبو الحسن
لا يذكر المغاربة “الشيخة” دون أن يستعيذوا بالله من مصيرها أو ويدعوا لها بالتوبة، في أحسن الأحوال.
ولم تنل مهنة من القدح والامتهان مثل ما نال هؤلاء المغنيات المؤتمنات على نصوص العيوط، الموروث الشفهي لمناطق شاسعة من المغرب والمهدد بالاندثار.
مصيرهن يتأرجح في ازدواجية حادة بين الامتنان على حفظ أسرار الهوية، والاقصاء الاجتماعي بكل قسوة.
هذه المفارقة لا تسترعي اهتمام معظم المغاربة ضمن ميثاق أخلاقي يرفع أشكالا تعبيرية بعينها ويضع أخرى، لكنها تستوقف الملاحظ الأجنبي.في دراستها المرجعية “النوع الاجتماعي والسوق: المرأة المغربية راوية التراث” (منشورات جامعة بنسلفانيا، 1969)، تنبهت الباحثة الأنثربولوجية الأميركية، ديبورا كابشن، إلى موقع “الشيخة” الفريد كحاملة وظيفة اجتماعية حيوية في المجتمع المغربي لا غنى عنها في حفلات الزفاف والعقيقة والولائم المقامة بمناسبات دينية أو وطنية.. وهي مع ذلك غير مرحب بها كجارة أو قريبة أو صديقة، ولا مكان لها في مجالس النساء اللواتي يخشين من أن يلحقهن شيء من “العار”.
ولاحظت كيف تتفادى الشيخات مجالس النساء في بعض المناطق ويجدن موقعهن في مجالس الرجال، حيث بوسعهن التدخين واحتساء الخمر. وقد يتطور الأمر إلى تبادل للمزح والنكات ذات الإيحاءات الجنسية، ولا تلبث أن تتحول بعد انتهاء الحفل من فنانة يملأ صوتها الأرجاء إلى شبح يتوارى بالنهار.\
وروت أستاذة “دراسات الأداء” بجامعة نيويورك كيف كانت تتنقل بين عوالم متناقضة أثناء إنجازها دراستها وكيف تتعايش عوالم الشيخات المسيّجة بـ”المحرمات” مع الحياة اليومية دون تسامح ودون أن يطغى أحدها على الآخر.ومن سمات هذا التناقض أن الباحثة كانت تضطر لكتمان وجهتها تفاديًا لإحراج مضيفيها أثناء إنجاز بحثها الميداني في منطقة بني ملال، عندما كانت تلتقي بالشيخات موضوع الدراسة.
وشبهت محترفات الفرجة في المجال القروي المغربي بالبضاعة المعروضة في الأسواق حيث يملأ الجسد والصوت المواسم والأفراح.
وخلصت إلى أن موقع الشيخة في الفضاء العام مرتبط بقدرتها على خرق الحشمة وانتهاك المباح في المنازل ووسط المحافل، لتلحق الشيخة ضمنًا أو علنًا ببنات الليل.وأشارت إلى ما تكابده الشيخة من عزلة أليمة في أواخر أيامها، إذ يقل زوارها ومعيلوها وتصبح “ورمًا اجتماعيًا” ينبغي التخلص منه.أما الناقد المغربي والباحث في المسرح والأدب الشعبي، حسن بحراوي، فيرى أن ما لحق بالشيخة من تقهقهر في المعيار الاجتماعي مرتبط بمصير العيطة ذاتها التي نشأت كشكل تعبيري يعكس أفراح القبيلة وأتراحها ويسجل مفاخرها ويعبر عن آمالها، قبل أن يلحقه ما لحقه من ابتذال مع انكسار البنيات الثقافية للمجتمع المغربي إبان انحطاط الدولة المغربية التقليدية وبداية التغلغل الاستعماري.
واعتبر صاحب كتاب “فن العيطة في المغرب” أن الاستعمار الفرنسي تعمّد نقل الشيخات إلى المواخير والأحياء المظلمة في المدن لا سيما في الدار البيضاء، مثل حي بوسبير، الذي تحول إلى مجال “للترفيه” على العساكر.وكنتيجة لذلك، يرى بحراوي، أخليت العيطة من أغراضها السياسية والاجتماعية وباتت طافحة بتعابير العربدة بعد أن كانت حافلة بأشعار الفخر والبطولات والمدح والغزل الرفيع.
ويستدل بحراوي على رأيه بالانبعاث النسبي للبعد السياسي للعيطة أواخر الخمسينات وبداية الستينات إبان مرحلة الاستقلال مع بروز جيل جديد من أشياخ العيطة من أمثال بوشعيب البيضاوي والماريشال قيبو..”فن العيطة بالمغرب””فن العيطة بالمغرب”وبعد استقلال المغرب عاد الاهتمام بالعيطة في المناسبات والأعياد الوطنية من قبل العمّال (محافظي الأقاليم) وكبار رجال السلطة، فوقعت العيطة أسيرة هذا النمط ولم تتمكن من الخروج منه حتى الآن، يضيف الباحث.
ولا يشفع للشيخة ما تبذله من جهد لجسر الهوة بينها وبين محيطها، فتراها تبالغ في زيارة الأولياء ونحر الأضاحي وتتطوع للغناء في المواسم الدينية والمناسبات الوطنية دون أجر، أملا في الحصول على شيء من الاهتمام والاعتراف. ولكن ما أن تنتهي وصلاتها الغنائية، حتى يلفظها الجميع دون رحمة.
وليس من قبيل الصدفة أن الشيخة غالبًا ما تكون منحدرة من مدينة أخرى، لأنها تأتي متسللة في سن مبكرة من بلدتها الأصلية هربًا من سطوة الآباء والإخوة والأهل بعد أن تقع في مشكل اجتماعي من قبيل الحمل خارج الزواج.
وحديثًا، استخدمت أنماط مستوحاة من العيطة كأغان راقصة في شكل فيديو كليبات تبث بشكل مكثف في السهرات التلفزيونية والأفراح الخاصة. وهي إن كانت قد وفرت دخلا ماديًا مريحًا لهذا النوع من الشيخات العصريات، إلا أن بحراوي لا يعتبر هذا اللون امتدادًا للعيطة بل استغلالا فجًا لتراث غنائي لغرض الربح السريع وإفراغ له من محتواه.
هذه التقلبات في المزاج العام والذوق الجماعي أثرت على وضع “الشيخة” الاقتصادي، إذ أصبحت مؤخرًا أقدر على تأمين دخل مادي يبعدها عن الفقر المدقع، ولكن وضعها الاجتماعي لم يتحسن، بل بقيت منبوذة اجتماعيًا.صحيح أن النوع الحديث من المشتغلات بهذا الفن التحقن بفئة الفنانات اللواتي يجنين أرباحًا طائلة، يقول الباحث، إلا أنه من الصعب وصفهن بـ”الشيخات” اللواتي نهلن من المنبع التقليدي للعيطة.
ولا يرى البحراوي حلا لإنقاذ العيطة من الابتذال الذي ابتليت به، ولترميم وضع الشيخة اجتماعيًا تبعًا لذلك، إلا بالعودة إلى نصوص العيطة الأصلية واسترجاع وظيفتها التعبيرية المفقودة.