ذاكرة العطر…/ الغالية ابوه
اليوم:
في الأروقةِ الواسعةِ لمتحف الآلات الموسيقية الذي يعود للقرن التاسع عشر كانت هدى تسير بخطى بطيئة تستكشف مجموعة ضخمة من الآلات التي تستعرضُ التاريخ الموسيقي لبلجيكا وأوروربا بشكلٍ عام.
في الجزء الذي يضم مجموعة Christian poché توقفت خطواتها، لم يكن بإمكان أي شيء صرف انتباهها وهي مأخوذة بسحرِ المكان سوى رائحة هبّت فجأة، رائحة تعرفها جيداً.
عبَقَ هذا الركنُ من المتحف برائحةِ مزيج الشيح والبرغموت وجذور السوسن الخليطِ الغامضِ الذي كان ضمن عناصر أخرى يشكلُ عطرها المفضل وهديتها الثابتة لفترةٍ طويلة من أول رجل أحبته في حياتها.
في ما مضى كان لهذهِ الرائحة معنى، كان عطرُ “جولي مدام” من Pierre Balmain المُشبّع برائحةِ أوراق البنفسج وزهرة الليلك يختزلُ فترة رماديةً من حياتها لم تعد الآن سوى ذكرى بعيدة ليست حزينة وليست -يقينا- سعيدة ليست إلا بعيدةً وباردة، رغم ذلك للذكرياتِ صلاحياتٌ لا تنقضي أيا كانت طبيعتها، تطفو من وقتٍ للآخر.
تذكّرتْ دون أيِّ إحساس.. قبل ست سنوات:
21 فبراير 2015: كلية العلوم والتقنيات الساعة الثالثة الاّ ربعا من بعد ظهيرةِ الثلثاء.
لم يحضر اسلمو أستاذ مادة عناصر كيمياء الكم -على غير عادتهِ- إلا بعد مضي أكثر من نصف الوقت المحدد لحصته.
منذ أعوامٍ خلت حين قدِم الأستاذ الشاب إلى الجامعة بعد تخرجه من الجزائر أخذ على عاتقهِ مسؤولية تذليل أي صعبٍ يتعلق بالمواد التي يدرسها للطلاب وإن اقتضى الأمر في بعضِ الأحيان العمل خارج أوقات دوامهِ. هدى شأن طالباتٍ وطُلابٍ كثُر طلبت لقاءهُ خارج الحرم الجامعي من أجل المساعدة قبل الإمتحانات.
في إحدى المرات القليلة التي لبى دعوتها حدثتهُ عن ضجرها من تخصصها ورغبتها في استبدالهِ بآخر.. نصحها بأمانة: “هُدى الگَيْس كم من مرة والگطع الاّ مر ة وحدة.. تخمّي حت.. انتِ مزلتي فالبداية ولين تتأكدي أنك ذ التخصص ما ادوريه جي وافية منو وخرصي ذاك اللي ادوري وگيسيه العام الجاي. وعاگب ذ ارگاج ما يقدم على شي ماهو متمونك فيه وإلى راد الله عليه قدم عليه بمُجرّد يكتشف انو ماهُ متمونكلو يفتصل معاه..الوقت ما يفوت على ذاك فر.”.
شعرت بكلماته تربت على كتفها وتطوقها بأمانٍ طالما احتاجت إليه، جعلها الأمرُ تكملُ ثلاث سنواتٍ بدرجاتٍ ممتازة في هذا التخصص رغم أن إسلمو الذي منحها هذا الشعور لم يُمضِ هناك غير عامٍ واحدٍ لكنهُ كان كافيا في مواجهةِ سنوات الغياب التي تلتهُ.
5 مايو 2019:
الشارع المحاذي لكنيسة “كوليجيال نوتردام دي دينانت دينانت”،( بلجيكا ) جالسةً بجوارِ النافذة تستمتعُ -عبر سماعاتها- بصوتِ أم كلثوم في مقطع:
“كأني طاف بي ركبُ اللّيالي
يحدِّثُ عنك في الدنيا وعنّي
على أني أغالطُ فيك سمعي
وتبصرُ فيك غير الشّك عيني
وما أنا بالمُصدّقِ فيك قولا
ولكني شقيتُ بحسنِ ظني”
تساءلتْ لماذا يحمل صوتُ “الست” كل هذا الشجن؟ لماذا تغدوا الكلماتُ أكثر دلالةً حين تغنيها، وحين يلحنها بليغ حمدي، أو محمد عبد الوهاب؟ لماذا اختارت أن تستمع لهذهِ الأغنية الآن تحديدا؟ هل للأمرِ علاقةٌ بما تنوي القيامَ به؟
داعبت الريحُ شعرها المبتلّ مسدلةً خصلات كستنائية على وجهها، استقامت في جلستها لتشد إحكام حجابها.. جاءت هدى إلى هنا من أجل استكمال دراستها، ولكن في المقام الأول من أجل منح نفسها فرصة أخرى لمحاولة إصلاح علاقتها بالرجل الذي أحبتهُ وأحبها ثم سافر، وتزوج أخرى.
الآن،بعد انفصالهِ عن زوجتهِ جاءت لتعرف منهُ ما الذي حدث قبل ثلاث سنوات وتحاول سبر أغواره لتكتشف إن كان هناك سبيلٌ للعودة إلى ما كانا عليه.
حسمت هدى أمرها سوف تنزل في المحطة القادمة وتسير مئتي متر نحو عنوانهِ الذي زودها به صديقهما. لكن هل سيكونُ مستعداً لقدومها؟ هل سيتحدثُ معها بشكلٍ لائق؟ هل مازال نفس الرجل الذي أحبتهُ؟
في اللحظة التالية شعرت بالحنق وبالشفقة على نفسها ثمَّ تتالت الأسئلة في تدافعٍ دون توقف. أليس من الحكمة أن نتجاهل معاركنا حينما نوقنُ بالخسارة؟ هل يمكنها حتى أن تعتبر حياتها معهُ بعدُ معركتها الخاصة؟هل يستحقُّ الأمرُ هذا العناء؟
غزتِ الأسئلةُ رأسها وعلى نحوٍ خاص هاجمها السؤال الأكبر، هل يظلُّ الحبُّ حباً حين يتوقفُ عن إسعادنا؟
استفاقت من شرودها على صوتِ الرجل الذي كان يجلسُ أمامها وهو يسألها في طريقهِ للنزول عند المحطة بخوفِ من لاحظ عينيها المغرورقتين: ¿Todo está bien? شعرت بالحرج، أجابتهُ والغصةُ واضحةٌ في صوتها بكلماتٍ متقطعة وهاربة: si.. lo siento.. gracias وبحركةٍ سريعة غادرت الباص عند نفسِ المحطة.
الآن بشكلٍ قاطع قررت أن تعملَ للمرةِ الأخيرة بنصيحتهِ “ارگاج ما يقدم على شي ماهو متمونك فيه وإلى راد الله عليه قدم عليه بمجرد يكتشف انو ماهُ متمونكلو يفتصل معاه..الوقت ما يفوت على ذاك فر.”
كانت الجزئيةُ المتعلقةُ بالوقت هي الأهم، لم يفت الأوانُ على التراجع. ستستعملُ نصيحتهُ ضدهُ ستعودُ أدراجها نحو بروكسل وفي ما تبقى من عمرها لن تعود إليه.
أعادتها الذكرياتُ إلى سنواتٍ خلت كانت تحسبُ أنها لن تُشفى منها ثم أظهر الزمن عكس ذلك. تبين أن تسلسل الأحداث كان محكما جداً ومُرضياً أكثر مما تخيلت ومما تمنت في أحسن أمنياتها.
في إحدى رحلاتها نحو بروكسل قابلت إدومو.. ما كانت لتقابل إدومو مليئةً بالحياة والشغف وتبدأ معهُ من جديد تجربةَ حبٍ فريدة لو لم تتخلَّ عن اسلمو وتحث الخطى نحو الجانب الآخر..
اليوم:
قطع رنينُ الهاتف المستمر ذكرياتها، حين تفقدتهُ كانت هناك مكالمتان ورسالة نصية على تلغرام من زوجها إدومو: -لا تخلّي عينينا يرگد سابگي ولا ترگدي انتِ طايرتي توصل العاشرة, مزال اللّيل اشْبابْ..متوحشكم”.