كنتُ قد كتبْتُ منذ عدة سنوات شذرةً احتفاليةً بزهر الكوسا الأصفر البرتقاليّ.. وتغنّيتُ بكثير من جماليّاته في عزّ الشهور الصيفية الهاربة من قبضة الشتاء العاري والمُعَرّي.
واليوم أَجِدُني أزورُه مجدَّداً في ثماره الصيفية بديعة اللون والطعم.
فثمار الكوسا لها مكانتُها ومعزَّتُها، عبر سلسلة من أحلى الذكريات.. من الأفراح الصغيرة.. ليس فقط في بيتنا العائليّ الصغير، ولكن أيضاً في بيتنا العائليّ الكبير.. بيت أبي وأمّي.
كانت لها احتفاليات مطبخية كثيرة؛ أكثرها شهرةً على المستوى السوري/ الفلسطيني/ اللبناني الشعبي المعروف وبالطريقة ذاتِها هي ثمار الكوسا التي كانت تبرع أمي في تفريغها.. ثمّ في حشيِها بالأرز واللحم والتوابل.. ومن ثَمّ في طبخِها مع مرق البندورة والثوم والنعناع في قِدرٍ كبيرة.. كبيرة.. تكاد تطعم الحيّ بكامله! تبدو التفاصيل سهلة التطبيق.. ولكنّها حقاً تحتاج لمهارة فائقة فيما يخصّ المقادير وطريقة الطّهي ونعمة “النّفَس” كما يُشار إليها بالعربية الدارجة.. والتي هي ميزة يمنحها الله ولايمكن بالتالي تَعلُّمُها!
وكم كانت تنحني أمام عطر روائحها المسافرة عبر الأثير المحمّل دائماً بحَبّات الخير في “مدينتي البحرية” فصلاً إثر فصل من شهور السّنة .. وكذا في “قريتي الجبلية”.. قلوبُ كلّ العابرين من قرب دارتنا سواءً كانوا كباراً أم صغارا!
أمّا عن (سَلَطة الكوسا) والتي هي واحدةٌ من الاحتفاليات المسرحية المطبخية في بيتنا.. فهي اليوم بطلة كلماتي.
مازالت تلك التفاصيل الصغيرة البسيطة الخاصّة بصُنعِها وتقديمها.. تجعلها تتبوّأ الصدارة على خشبة المسرح المطبخي.. في صيفٍ كان قيظه يترنّح أمام برودتها المنعشة.. وخِفّتِها التي تدحض كلّ ثقلِ ذرّاتِ هوائه.. بلطفٍ وهدوءٍ وصمتٍ مَهيب.
كانت لِصُنعها طقوس صغيرة متتالية.. بدءاً من انتقائها.. في ثمارٍ صغيرة.. صغيرة.. إلى التخلّص من رؤوسها الشوكية.. إلى غسلها.. والحَفر عليها بنقوش طوليّة لايُتقِنُ دِقّةَ عمقها وامتداداتها سوى نحّاتٍ بارع.. إلى طهيِها لدقائق قصيرة في الماء المغليّ المالح.. إلى تصفيتها في مصفاةٍ مازالت ثقوبها الصغيرة تسيل عبرها شلّالات من الحبّ والحنين.. إلى تقطيعها دوائر أنيقة متساوية الثخانة في صحنِ السَّلَطة المعروف والمألوف جداً في بيتنا.
كانت بعدَها تلك الدوائر تختلط بانسجامٍ لامثيل له مع صلصةٍ مُعَدَّةٍ سلفاً ومتأهّبةٍ لاحتضانها: زيت الزيتون البلديّ والثوم المدقوق البلدي والبقدونس الغضّ.. الغضّ.. والأخضر.. الأخضر.. والملح.. وعصير الليمون البلدي الحامض.. الحامض.
للّه درّه ذلك الليمون الذي يذكّرني بجدّتي لأمّي حيث كانت تحفظه لمؤونة العام في خابيةٍ مليئةٍ بالرمل والتراب الكلسيّ الأبيض.. تتصبّغُ منه أذرعُنا الصغيرة مع أبناء الخال والخالة والأقارب والأصدقاء الأحبة وهي تحاول الحصولَ.. بعيداً عن مَرأى جدّتي الحنون.. على بعضٍ من ثماره المخَبّأَة الباردة.. من أجل صنع أطباقنا الطفولية اللذيذة في جنينة الدار السحريّة.
للّه درّه ذلك الليمون الذي يذكّرني أيضاً بجدّتي لأبي حيث كانت تمرِّرُ كلَّ نصفِ ليمونةٍ بعد عصرها تحتَ نقاطٍ معدودة من صنبور الماء ثمّ تعصرها من جديد لاستخلاص كلّ ماأنعم الله به من نقاط الخَير في تلك الليمونة المباركة من بدايتها إلى نهايتها.. زهراً.. وأوراقاً.. وقشوراً.. وعصيرا. كنتُ أقفُ قربَها أراقبها بإعجاب وشغف وهي تشرح لي السبب الذي سبقَت فيه طُهاة اليوم المشهورين على التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعيّ والذين ينصحون بفعلِ ما كانت تفعله جدّتي العظيمة. كانت بعد ذلك تفرك ثمار الليمون بأصابع يديها بعد عَصره.. مكتشفةً سرّاً جَماليّاً تتباهى به وتتحدّث عنه وتصنع منه شركات التجميل والدواء العالمية كثيراً من المستحضرات والأدوية!
كانت طقوس إعداد سَلَطة الكوسا تقوم بها أمّي الحبيبة.. التي لم أصادف بعد من يبزّها في مهارة الطبخ هي وشقيقتها.. وأمّهما.. مَهارةٍ أزهو بها كما أتّكئ فيها على الجينات التي ورثتُها …كي أحتفظ بشيءٍ من ذاك اللقب تِباعاً.. مع شقيقتي المبدعة.. لابل كي أورّثه لولديّ بأملٍ كبير كما يبدو لي اليوم بسرور!
كانت سَلَطة الكوسا.. بطقوسها الصغيرة.. مسرحيةً للحبّ في بيتنا: فأمّي كانت تصنعها خصّيصاً لعينَي أبي.. الذي كان أيضاً يشارك كثيراً في حيثيات صنعها.. والفرح يملأ عينيه الباسمتَين.. باسمتَين لها تلك السَّلَطة الغالية على قلبه الكبير.. باسمتَين لأمّي التي يُحبّ ويُجِلّ.. باسمتَين لنا نحن أولاده الخمسة.. المنتظرين وليمةً من الفرح الصّحّي واللذيذ والبسيط مع أطايب كثيرة يتعذّر حصرها ويحفل بها كَرْمُ الحبّ العائليّ الشّهير في بيتنا!
سَلَطة الكوسا اليوم في بيتي الصغيرتظلّ مدلَّلَتي.. تظلّ إحدى هدايا ذكريات عمري الكثيرة.. الكثيرة.. الملفوفة بشرائط من حب وحنين وحياة وفرح.. أفتح كلّاً منها بكلّ تأنٍّ.. وأُغلِقُها مِن ثَمّ على عجالة كي لاتضيع! أخبّئ طعمَها اللذيذ في روحي الشّاردة.. أسمع فيها صوتَ أبي الذي لا يخطئ نبرتَه الموسيقية قلبي.. أقبّل عَبرها يدَ أمي الدافئة الناعمة.. أمسكُ من خلالها بيد أختي الحبيبة في طريقنا إلى المدرسة الابتدائية ونحن نقفز ونغني مع الحقيبة المدرسية.. ثم ألعب مع أشقائي الثلاثة الأحبّة بِكُرَةٍ ملوّنةٍ بأحلى الألوان تعوم تارةً على بحر الشاطئ الأزرق في لاذقيتي.. “مدينتي البحرية”.. وتارةً أُخرى تَهوي بعيداً.. بعيداً.. في عمق قلبِ ” جبل الصباح”!
(أكاديميّة سوريّة مقيمة في لندن)