يوم “كَوْلَانِي السيل”../ أحمدفال امحمد آبه
يوم وفاة ملك المغرب السابق الحسن الثاني..بدأ ذلك اليوم، كما تبدأ كل أيام الهزيع الأخير من شهر يوليو.. لم يكن يخفي وراء شمسه، التي طلعت متوهجة، أية مفاجآت، أو هكذا بدا لنا أول الأمر..
أنهى، المغفور له بإذن الله تعالى، الوالد محفوظ ولد لخليفة “أتاي الصبح” – بعد أن استسلمت “آخر جمرة في الفرنة” واستحالت رمادا – و خرج من العريش وألقى نظرة خاطفة إلى السماء، ثم أشار بيده إلى مجموعة مزن صغيرة، بالكاد ترى بالعين، وقال : “هذو لخروفات إذا أراد الله فيهم الماء”..
ذهبت وصديقاي، سيدمحمد محمد فال و سيدي ولد محمد اطفل إلى الوادي لقضاء بعض الوقت تحت الظلال الوارفة للأشجار، ثم قررنا فجأة، ودون سابق تدبير، أن نذهب إلى النخيل، على الضفة الأخرى من “فم لخنك” ، للسلام على أسرة هناك نمت لها بصلة القربى، بعد أن بلغنا أنهم “جاو للكيطنة”..
يعرف “فم لِخْنَكْ” أيضا باسم “الطّرطيكَة”، وهو مصب أغلب أودية تكانت، وبطحاؤه شاسعة ، تحفها باسقات النخيل من الجنوب والشمال.. اجتزنا البطحاء الفسيحة، وأقدامنا تسيخ في رملها البراق، ولم يخطر ببال أي منا أننا سنعبرها بعد 50 دقيقة بالضبط وماؤها يأخذنا إلى ما دون التراقي ب”مطرح أخمس أصباع”، لكن ذلك ما حدث بالفعل.. فما كدنا ننهي “السلام المعتاد” ونجلس على “الحصيرة” حتى زمجر رعد قوي لم نستطع تحديد الجهة التي جاء منها صوته، ولم نر أي علامات على قرب نزول المطر ، بل ظن أحدهم أنه صوت سيارة تقترب منا، فلم يكن الزمان زمان أمطار، ولا السماء سماؤها، أو هكذا بدا لنا على الأقل، قبل أن يتبين أن “وراء الأكمة” التي تحيط بالنخيل وتحجب الجهة الشرقية من السماء، ما وراءها، فما هي إلا دقائق حتى زمجر الرعد ثانية، فاستجابت السماء لندائه بأسرع من لمح البصر، مرسلة تحذيرا أوليا.. عدة “رشات” من الحجم الكبير، فسارعت الأسرة التي نحن عندها في “التكفاط”، استعدادا للصعود إلى “أكنتور” قريب من المكان..
وبعد دقائق فُتحت أبواب السماء بماء منهمر، وما هي حتى “امتصت” الرمال كفايتها، وبدأت السيول تلتقي على ظهرها من كل صوب .. قررنا نحن الثلاثة أن علينا الإسراع في العودة إلى القرية “دار السلام” قبل أن تفيض البطحاء أكثر من ذلك، فمن الواضح أن السماء لن تقلع قريبا، ورغم مناشدات الأسرة التي كنا عندها لنا بالانتظار حتى ينتهي المطر أو يخف على الأقل، إلا أننا قررنا العبور إلى الضفة الأخرى.. خلعنا “نعالنا ودراريعنا”، وحملت أنا الجميع تحت إبطي، ثم سرنا بتؤدة.. كان الماء في البطحاء ساكنا، لكنه عميق بعض الشيء، وبما أننا نعرف “المكطع” فقد اجتزناه بسهولة.. عند الضفة الأخرى، وجدنا رجلا عنده حمار ، عليه متاع خفيف، و قد أرهقه ب “لحران”، فالحمير تكره المشي في المطر، طلب منا مساعدته في العبور إلى الضفة التي كنا فيها، فطلبنا أن يقسينا أولا شربة ماء من “التيكط” التي على الحمار، ففعل ، لكننا ذهبنا ولم نساعده “لقد كانت قمة النذالة” ، وقال أحدهم بعد ذلك إنه “زَبَّانَ”، ويا لها من “تزبوت'” إن كانت حقا كذلك..
بعد اجتياز البطحاء، كان علينا أن نعبر “اخْنَك” أيضا للوصول إلى القرية، و “لخنك” هو مسيل في الكدية .. كانت السماء لا تزال تجود على الأرض بمائها، والرعد يزمجر بقوة كأنما يضغط المزن لتفرغ حمولتها بسرعة.. كان “لخنك” يفيض بالماء، وأمواجه تتلاطم، لكننا قررنا “دون تعقل” عبوره، رغم أن شبابا كانوا على الجانب الآخر أشاروا علينا بعدم المحاولة.. أمسك كل منا بيد الآخر.. سيدي في الأمام وأنا خلفه، سيد محمد محمد فال خلفنا، ثم دخلنا الماء..
نفض الأخير يده من يدي وعاد أدراجه، بينما تقدمت أنا وسيدي نحن الماء، الذي كان يندفع بقوة، وما هي إلا لحظات حتى زلت قدم صاحبي، وكان ذلك آخر العهد به.. لقد جرفه السيل، وقفت أنظر إليه وهو يختفي بعيدا، وقبل أن أقرر ما أنا فاعل ، زلت قدمي، وألحقتني الأمواج بصديقي....
كان الماء يجرفني يمنة ويسرة، وأحيانا يشقلبني.. أيقنت بالهلاك، وقطعت من النجاة رجائي، فتشهدت، ثم أسلمت الأمر لمن يدبر الأمر .. بعد لحظات من الشقلبة، والرفع والخفض ، جرفتني الماء إلى مكان أقل عمقا وأضعف أمواجا من الأول، فاستطعت أن ارفع رأسي، وهنا رأيت شبحا يجلس على صخرة وسط المياه، خلته للوهلة الأولى “أوروبيا” لفرط بياض لونه، ولأنه كان كمسلم عاد للتو من حج مبرور،، جرفتني المياه إلى ناحيته، فمد يده إلي ومددت يدي إليه ، لكن الموج حال بيننا، وعندها أيقنت بالهلاك.. التفت إليه ، فلوح لي بيده كالمودع، لكن أمرا غريبا حدث.. حاولت الالتفات إلى “الشبح”، ولما وضعت يدي على الصخرة أحسست كأنها قد التصقت بها، ولم تتحرك، ثم ثبت جسمي كله، وبقيت على تلك الحال عدة دقائق، ثم تحركت إلى الخلف، وأمسكت صخرة كبيرة وجلست عليها مقابلا “الشبح” الذي لم يكن سوى صديقي سيدي ..
نظرت إلى حالنا.. هو كما ولدته أمه، وأنا لم يبق من سروالي إلا ما يستر عورة الواقف فقط .. على الجانب الآخر ، كان الخبر قد وصل إلى أهل القرية، فهرعوا يبحثون عنا.. بعضهم ذهب إلى البطحاء ينتظر وصولنا إليها “لأن لخنك يصب فيها”، والبعض ذهب إلى “لخنك”.. خرجنا من الماء وقد أثخنتنا الجراحات، وبالكاد نستطيع الوقوف.. لقد أمضيت بعد ذلك شهرا لا أجلس إلا مستندا على يدي، وما زالت إلى الآن بعض الندوب في ركبتي من تلك الحادثة..
تلقانا أهل القرية وحملونا إلى حيث نتلقى العلاج، واللباس .. بينما استمر البحث عن ثالثنا، وقد أكدت لهم أنه لم يدخل الماء معنا، بل إن آخر مرة رفعت فيها طرفي إلى السماء رأيته يلوح لنا بيده مودعا.. وقد عثروا عليه بعد ذلك نائما تحت “أكنتور” ..
في المساء تعافينا قليلا.. وبعد يومين تحول الموضوع إلى مادة للتندر ، والسخرية.. فقد جئنا بعد ذلك بيومين إلى إحدى الأسر ، وكانت السماء قد أقلعت لتوها، وكان “لمبار” يقطر من الماء، فقالت لنا إحدى السيدات: العيل حوزوا عن اكطار لمبار لا توقدوا.. ومرة ثانية “صبت” لنا إحدى السيدات ماء في طاسة، وقالت لنا: وهاو عوموا هون، وأرعاو لا توقدو....