صفاء فيصل تكتب عن تجربتها محلفة في محكمة بلندن ( الجزء الثاني والثالث – الأخير)
نشرنا الجزء الأول من خواطر الإذاعية الكبيرة صفاء فيصل التي استدعيت لتكون ضمن المحلفين في إحدى المحاكم البريطانية.. وفي الآتي الجزء الثاني والجزء الأخير:
محكمة الشعب: الجزء الثاني
قاعة المحكمة
يسود قاعة المحكمة البريطانية نظام صارم فى أماكن الجلوس لهيئة المُحلَّفين والقاضي وهيئة الدفاع وممثل الادعاء والمتهم. ويجلس المُحلفون الاثنا عشر بنفس ترتيب الجلوس طيلة جلسات المحكمة حتى مرحلة المداولة ويسمح لهم بتدوين ملاحظات فى ورق مخصص لذلك على أن يترك فى قاعة المحكمة حتى اليوم التالي ولا يسمح لهم سوى بتناول الماء خلال الجلسات. والمُحلفون هم آخر من يدخل قاعة المحكمة ويشرف على دخولهم وخروجهم الحاجب.
يسمح للشهود بالإدلاء بشهاداتهم من وراء ستار اذا وافق القاضي ويجلس المتهم فى ركن زجاجي ويدخل من مكان محدد بحيث لا يختلط بأى من المُحلَّفين أو الشهود حتى لا يؤثر فيهم ولا يتعرض احدهم للتهديد. ويجلس أهل المتهم قبالة المحلفين والقاضي قبالة المتهم.
صديقي المحترم
من ألطف الأشياء التى لفتت انتباهي لغة الحوار الراقي للغاية بين ممثلي الادعاء والدفاع. حيث ينادي أحدهما الاخر بلقب صديقي المحترم My honourable friend. وكثيرا ما يبتسما لبعضهما البعض بشكل ودود. ويتحلى ممثل الادعاء بالكثير من الكياسة فى مخاطبة المتهم ويسأله فى بداية المحاكمة إن كان يرغب فى مناداته بلقبه أم يرفع التكليف ويناديه باسمه الاول. وغالبا ما يناديه بلقب مستر فلان أما القاضي فالجميع يناديه السيد الموقر Your Honour. واللافت ايضا أن ممثلي الادعاء والدفاع والقاضي يرتدون معاطف سوداء (روپ) وعلى رأس كل منهم باروكة رمادية اللون حفظا للهيبة. وممثل الادعاء فى المخاطبات يطلق عليه اسم كراون أي التاج لانه يمثل لهيئة عدالة الملكة شخصيا.
المتهم برئ حتى تثبت ادانته
يتعامل الجميع فى كل مراحل المحاكمة بالاحترام مع المتهم وله حقوق يضمنها القاضي ومنها التعامل المنصف معه. وأول ذلك الانصاف أن يقف جميع المُحلَّفين أمام المتهم ويسمح له بتفحصهم جميعا ويسأله إن كان لديه اي اعتراض على أى من المُحلفين. ويشرح القاضي للمُحلفين المهمة الموكلة اليهم وهى أن المتهم غير مدان الى أن يتمكن ممثل الادعاء من نسب التهم اليه. والعكس غير صحيح أي ان المتهم لا يٰطلب منه أن يثبت براءته. ولا يسعي ممثل الدفاع الى إثبات براءة المتهم بل يقع عبء إثبات الذنب
قضاة الأدلة وقاضى القانون
فى اول يوم يشرح القاضي ما هو مطلوب من هيئة المُحلفين وهو الاستماع الى المتهم والشهود حتى مرحلة المداولة ومن حق المُحلفين ان يسألوا ويستفسروا عن نقاط معينة فى سير المحاكمة وكل ذلك عن طريق الحاجب الذي يقدم الاستفسار الي القاضي الذي يوجه السؤال الي المتهم او الشهود او الدفاع ان اراد ذلك
وغدا نستكمل المرحلة الأخيرة باذن الله.
محكمة الشعب – الجزء الثالث والأخير:
* قضاة الأدلة وقاضي القانون :
عندما بدأنا مهمتنا كهيئة مُحلفين قال القاضي لنا كلمة مهمة للغاية “أنتم قضاة الأدلة وأنا قاضي القانون”. ماذا يعني ذلك؟؟
يعني أن حكم هيئة المُحلفين يستند الى الوقائع التى أمامهم فى حين أن القاضي يحكم بالقوانين التى لا نعرفها نحن بالطبع. لذا فدور المحلفين قاصر على الاستماع الى الأدلة والمعلومات التى تتوفر فقط داخل قاعة المحكمة. يمكن للقاضي مثلا أن يحجب معلومة معينة عن المُحلفين تتعلق بالحياة الماضية للمتهم أو اتهامات سابقة وذلك حتى لا يتأثروا ويحكموا بالعاطفة سواء مع المتهم او ضده والمطلوب هو الحكم بتجرد وحسب الخبرات الشخصية لكل عضو فى هيئة المُحلفين. ويمكن فى المقابل أن يتفق القاضي مع هيئة الدفاع والادعاء على ضرورة الكشف عن معلومات معينة كما حدث فى القضية التى كنت فيها احد المُحلفين. لكن ممنوع بتاتا أن يقوم المُحلف باستخدام محرك البحث غوغل مثلا للاطلاع على شخصية المتهم أو ملابسات القضية لان التناول الإعلامي للقضايا قد يؤثر على المنطق العقلي الذى يجب أن يتحلى به المُحلفون فى الحكم على المتهم.
* غرفة المداولة
بعد أن تنتهي إجراءات المحاكمة وينتهي ممثلا الدفاع والأدعاء من مرافعاتهما. يطلب من المُحلفين الانتقال الى غرفة المداولة وهناك يتم قطع وسائل الاتصال حرفيا عن كل المُحلفين ويتم مصادرة هواتفهم النقالة واجهزة الكمبيوتر والايباد وغيرها ولا يسمح لهم حتى بالخروج الى ساعة الغذاء أو شرب القهوة ومن يخرج للتدخين يحصل على أذن من القاضي ويرافقه حاجب المحكمة الى حديقة داخلية لا يصل اليها أى شخص.
خلال تلك الساعات ينتخب المحلفون شخصا يتحدث باسمهم ويقوم بعملية تنظيمية سريعة يستعرض فيها التهم وسبر آراء الجميع بما فيها رأيه هو شخصيا.
* مذنب أم غير مذنب
السؤال المحورى الذي يطلب من المُحلفين الإجابة عليه بعد اخد الإرشادات من القاضي هو هل المتهم مذنب أم غير مذنب. وغالبا ما ينقسم المحلفون ما بين مؤيد ومعارض في الجولة الاولي من التصويت ثم يستعرض كل فريق اسبابه الى ان يقتنع فريق بما يقوله الفريق الاخر ويتم الاتفاق على رأي بالإجماع.
اذا لم يحدث الاجماع يلجأ المحلفون الى القاضي الذى يمكنه أن يقبل بعد عدة مداولات رأي الأغلبية العظمي وهى واحد الي احد عشر او اثنين الى عشرة.
بعد التوصل الى القرار يتم تقديمه الى القاضي بواسطة الشخص الذى تم انتخابه. ويتم الكشف عن قرار مذنب أو غير مذنب علانية وفى حضور المتهم والقاضى وممثلي الادعاء والدفاع.
تنتهى مهمة المُحلفين عن هذا الحد ويخرجوا من قاعة المحكمة ويترك الحكم لتقدير القاضي.
* تعليق شخصي اخير
دون أى تفاخر أو تزلف أقول أننى أخوض هذه التجربة للمرة الثانية دون اختياري ودون رغبتي لكننى أخذت المهمة الملقاة على عاتقى بكل جدية لاننى أقسمت على كتاب الله أن أفعل ذلك. اجتهدت جدا فى أن يكون رأيي محايدا وبعيدا على الاهواء الشخصية والتزمت حرفيا بكل ما طلب منى ولم اتحدث لاى شخص عن تفاصيل القضية طوال جلسات المحكمة ولم أحاول ابدا البحث عن تفاصيل القضية الا بعد انتهاء المهمة. والاهم من كل ذلك أننى استفدت استفادة عظيمة فى تحقيق هدف مهم وهو التعرف على عالم مختلف وغير مألوف بالنسبة لى وتعرفت على شخصيات لا يتسني لى التعامل معها فى إطار الحياة اليومية.
من صفحة الاذاعية الكبيرة على الفيسبوك