في مئويته الثانية: ماركس الذي ظلمته «أحزابه»/ وحيد عبدالمجيد
تتزامن الذكرى المئوية الثانية لمولد كارل ماركس، والتي حلت يوم أمس، مع ذكرى مرور نصف قرن على حركة الشباب والطلاب التي كان مؤمنون بأفكاره في طليعتها، وضمن أبرز قادتها، سواء من انتموا إلى أحزاب شيوعية قديمة أو من اعتبُروا حينئذ يساراً جديداً.
يثير هذا التزامن أسئلة أهمها عن المعارك الطاحنة فكرياً وسياسياً، وعسكرياً في بعض الحالات، بين ماركسيين اختلفت مواقفهم وتوجهاتهم، ووقعت واحدة من أهمها خلال حركة الشباب والطلاب في بعض البلدان عام 1968، وكانت واضحة في فرنسا بصفة خاصة حين اندلعت معركة سياسية وأيديولوجية في سياق الصراع بين الحزب الشيوعي واليسار الجديد.
فقد فُهم ماركس بطرق مختلفة ليس من خصومه وأعدائه فقط، أو من لفظوا أفكاره بعد أن اعتنقوها فحسب، بل من جانب من آمنوا بها أيضاً. وعلى رغم اختلافاتهم وصراعاتهم، فقد جمعهم ميل إلى قولبة ماركس، واستخدام أفكاره بطريقة زعم كل منهم أنها الأصل، وما عداها هرطقة. ولذا أسهموا بمعاركهم، كما بدوغمائيتهم، في الهزيمة التي حلت بالماركسية في مجملها، وبكل الأحزاب التي تبنتها أو استلهمتها، بعد أن كانت مرجعاً رسمياً في أكثر من ثلث بلدان العالم في الفترة من أواخر أربعينات القرن الماضي، وحتى مطلع عقده الأخير.
كانت حركة الشباب والطلاب، التي يمر في هذا الشهر خمسون عاماً عليها، أحد أكثر الأمثلة دلالة على حدة صراعات الماركسيين، التي وصفها بعضهم بأنها أشد عداءً من معظم الصراعات التي خاضها أي من أحزابهم وحركاتهم ضد غيرها.
كان موقف الحزب الشيوعي الفرنسي المرتبط بما كان يُسمى «الدولة الأم»، أي الاتحاد السوفياتي السابق، متردداً عندما بدأت تلك الحركة تتوسع في أوائل أيار (مايو) 1968، على رغم أن عدداً غير قليل من أعضائه شاركوا في فاعلياتها، بخاصة منذ خروج التظاهرة الطالبية المشهورة إلى مصنع سيارات «رينو» في 17 من ذلك الشهر.
ويدل سياق الأحداث على أن قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي كانت قلقة، منذ البداية، من الاتجاهات الاجتماعية الجذرية التي تبناها من أُطلق عليهم يسار جديد، وظهرت في عدد من الجامعات والمدارس الثانوية والمصانع والمؤسسات الاجتماعية والثقافية.
لكن ذلك الصراع كان أقل حدة من معركة عنيفة سبقته بنحو ثلاثة عقود بين الحزب الشيوعي الإسباني، التابع بدوره للحزب «الأب» أو «الدولة الأم»، وكل من «الكونفيدرالية الوطنية للعمال»، وحزب العمال للتوحيد الماركسي. وهما حركتان يساريتان راديكاليتان اتهمهما الحزب الشيوعي وحلفاؤه تارة بأنهما فوضويتان، وتارة أخرى بأنهما انفصاليتان. وكانت الكونفيدرالية حركة نقابية ثورية قوية، فيما كان حزب العمال للتوحيد ماركسياً راديكالياً يُصنف تروتسكياً لأنه انضم إلى القوى اليسارية التي أيدت ليون تروتسكي، بعد سنوات على خلافه مع قيادة الثورة البلشفية، وأسست بعد ذلك الأممية الرابعة في 1938.
وقد هُزم هذا الحزب وتلك الكونفيدرالية أمام الحزب الشيوعي في معركة كاتالونيا المسلحة، الأكثر عنفاً في تاريخ الصراعات بين الماركسيين، والتي بدأت عندما حاصر مقاتلون تابعون لهذا الحزب المناطق التي سيطرا عليها في كاتالونيا، وأقاما فيها «كومونة». وروى جورج أورويل، صاحب رواية «1984» المشهورة، أهم وقائع تلك المعركة، والمجزرة التي ارتكبها مقاتلو الحزب الشيوعي، في كتابه «تحية لكاتالونيا» الذي أصدره في 1938. وكان أورويل قد ذهب إلى إسبانيا مراسلاً صحافياً لتغطية الحرب الأهلية، ولكنه لم يلبث أن انخرط في صفوف الجبهة الشعبية، ثم التحق بحزب العمال للتوحيد الماركسي، عندما شن الحزب الشيوعي الحرب ضده، ووثّق أحداث المعركة الأكثر عنفاً في تاريخ الصراعات بين الأحزاب والحركات الماركسية، والتي أسماها بعض اليساريين الأوروبيين «أم الخيانات» على مر هذا التاريخ الحافل بالمعارك.
وليست معركتا فرنسا وإسبانيا هاتان إلا مثالين لمعارك «الرفاق»، التي ربما تكون أكثر ما يؤلم ماركس لو تخيلنا أنه بُعث حياً في مئويته الثانية، إلى جانب قولبة أفكاره، واختزالها في شعارات، أو «كبسولات»، واستخدامها مرجعاً لنظم حكم شمولية مستبدة قدمت أسوأ نموذج للاشتراكية، وخلقت ممارساتها انطباعاً واسعاً في العالم اليوم بأن ماركس لم يترك شيئاً مفيداً.
غير أن هذا الخلط بين أفكار ماركس، والأدبيات التي توصف بأنها ماركسية، ينبغي أن يُزعج أيضاً المعنيين بتاريخ الأفكار والملتزمين بالموضوعية والمنهجية في قراءة هذا التاريخ. انتبه قليلون جداً من هؤلاء إلى الفرق الملموس بين ماركس، وما عُرف بعده باسم الماركسية. وكلهم تقريباً ينطبق عليهم القول إنهم أحبوا ماركس، وكرهوا الماركسية، أو بالأحرى اللينينية والستالينية والماوية والتروتسكية، وغيرها من القوالب الفكرية المصبوبة والمغلقة.
لا تشبه هذه القوالب المتحجرة معظم أفكار ماركس إلا في بعض عناوينها. وأكثر من ذلك، لم يقرأ معظم من تبنوا الماركسية، بل غالبيتهم الساحقة، أعمال ماركس الفلسفية والعلمية الكبرى، ربما باستثناء ما يتعلق بالمادية التاريخية التي تُعد أقلها أهمية، وأكثرها استغراقاً في الأيديولوجيا. بعضهم قرأوا كتاباته السياسية معزولة عن سياقها الفكري، وهو الذي عاصر الرأسمالية في مرحلتها الأولى فقط (توفي عام 1883)، والتي كانت بدائية مقارنة بما بعدها.
قدم ماركس تحليلاً علمياً، ممزوجاً بشوائب أيديولوجية، لآليات عمل الرأسمالية. وحاول استنتاج ما ستؤول إليه عملية التراكم الرأسمالي، وسعى إلى توقع الاتجاه العام لمسار هذه العملية في حدود معطياتها التي تغيرت كثيراً بعده. وكان لأفكاره عن العدالة الاجتماعية أثر كبير في هذا التغيير. فقد نبهت هذه الأفكار أركان النظام الرأسمالي إلى ضرورة تجديده، وإيجاد حلول للمظالم الاجتماعية المهولة التي تفشت في المرحلة التي عاشها ماركس. ويمكن أن نجد في تحليله ما يدل على توقع حالة قريبة من العولمة الرأسمالية المصرفية الراهنة.
وليت الذكرى المئوية الثانية لمولده تكون مناسبة للبحث في تراثه، سعياً إلى وضع خط فاصل بين إسهاماته العلمية والفكرية التي لا غنى لأي باحث جاد في العلوم الاجتماعية عنها، من ناحية، وتوجهاته السياسية التي كان «البيان الشيوعي» أول تعبير عنها، وكتاباته الأيديولوجية التي تُعد المادية التاريخية أبرزها، من الناحية الثانية.
المقال للحياة