لا تزال مسألة الذاكرة الوطنية في موريتانيا إحدي أصعب المواضيع معالجة، حيث تغطي سحابة سميكة ذلك الماضي المنفر بتعقيداته المتشابكة والذي يتم التملص منه باستمرار ولا يستكشف بالقدر الكافي لإبراز مضامينه وثوابته مقارنة بمشروع الدولة القومية المتواصل.
نعلم جميعا أن الجمهورية الإسلامية الموريتانية الحالية مؤتمنة على تراث سبقها وصاغت آثاره حياتها بأشكال مختلفة.
ويشمل ذلك الموروث عدة كيانات زالت واختفت منها إمبراطورية غانا ومملكات صنهاجة وإمبراطورية المرابطين ومملكة التكرور والإمارات آلحسا نية ، بالإضافة إلى المنتجات الثقافية والسياسية المشتقة (المشيخات والزواويا ومدن القوافل) التي تغطي هذا المجال و ذاك من دوائر النفوذ.
وإن تنظيم الدولة، المتفوقة في نوعه وطبيعته، قد برز كخلاصة تاريخية من المفترض أن تستوعب الجميع لتجعل منه أمة. وقد شكلت الحقبة الاستعمارية (1905 ـ 1960) لحظة حاسمة، بدون شك، في التصميم السياسي والتحديد الجغرافي لموريتانيا “الغربية” على حد قول كزافييه كبولاني..
لقد سبقت تلك اللحظة وواكبتها مقاومة مسلحة (1905 ـ 1936) وروحية وسياسة عبرت جميع مناطق البلاد واكتتبت كافة مكونات السكان وطبعت حوليات القوة المحتلة في حين قوت الوعي المحلي. وهناك عدة أماكن تحفظها التقاليد الشفوية وتصنفها بأنها “يوم المكان كذا” تحمل أثر ذلك وتذكر بالوقائع التاريخية وتنقل رسالة تتجاوززمنها.
ومن الحوضين إلى المحيط ومن نهر السنغال إلى تيرس، أسمعت المقاومة كلمتها في بوگادوم وگلاگه واعگيلات الوزگه وگدم الفرنان ونيملان ودمان والعزلات والفرفارات وزوروگو و اماطيل واڭصيرالطرشان وتنغراده والطريفيه ولبيظات واعگيلت لخشب ولتفتار ولگويشيشي والرجيمات وگليب الخشاش وسرك وعگيلت فاي ولگديم وتورين وأغسرمت ووديان الخروب، بالإضافة إلى مواقع المدن الرئيسية الحالية في البلاد مثل انواذيبو وألاگ وكيفا وكيهيدي وتجگجه والنعمه. و هنا ننوه بدور جمعية تسمى “جمعية تخليد ابطال المقاومة” لما لذ لك من معنى ڢي هذا السياق …
إن ميلاد وترسيخ الدولة الموريتانية، رغم القوى المعادية العديدة في الداخل والخارج ، لم يكن ليتحقق من دون جهود وتضحيات آلاف المواطنين والجنود المجهولين في مغامرة جماعية والذين شغل بعضهم مناصب مسؤولية في الإدارة الناشئة للدولة الفتية ويستحقون بعض التقدير. إن هذا “التاريخ غير المحكم فيه” والطويل وذلك الميلاد “في أشد الألم” حسب عبارة البروفيسور لو گورمو (عندما يشغل الشوفينيون المجال،)، قد أثرت بشكل عميق على مجتمع يتعرض لتسارع التاريخ وصراعات الشرعية والسيادة ( المحاربون والزوايا، سكان الشرق وسكان الغرب، البيض والسود، الحضر والريفيون، …) ومن وراء شعور مبهم بإيقاظ شياطين التجزئة الافتراضيين، تتدافع بعض الأسئلة على السطح : هل توجد الذاكرة الوطنية؟، هل هناك أماكن وأشخاص ذو معاني يتجاوزون النزعة المحلية ويستحقون أن ينقلوا إلى الأجيال القادمة؟، هل يحمل تنوع الطرق المحلية بذورالسير الوطني في نفس الاتجاه؟ أي صلة يمكن أن تربط بين بعض الشخصيات مثل عبد الله بن ياسين ويحيى بن عمر وكولي تنگلا وناصر الدين ووارا ديابي ندياي والشيخ سيديا الكبير والشيخ عبد القادر الفوتي والأمير محمد الحبيب والشيخ سيدي محمد الكنتي وهنون ولد بوسيف والأمير بكار ولد سويد أحمد وعدة شخصيات أخرى استثنائية، وما ذا كان تأثيرهم على ميلاد الحاضر؟ لماذا تستحق بعض الأماكن ذكرها في الكتب المدرسية مثل آزوگي وجزيرة تيدره وكمبي صالح وأودغست وگومل وتندوجه ولحنيكات….؟ هل ينبغي القبول بأن التضحيات التي قدمت تحت العلم الوطني خلال حرب الصحراء قد اكتسحتها رياح اريف أو -الساحلية وكأن شيئا لم يكن؟..
الأسباب الكامنة وراء البحث
عند حديثنا عن الذاكرة الوطنية نمس صميم الأساس الذي تقوم عليه الهوية (أي ماهية كون الشخص موريتانيا) وكذا الإحساس بالتراث الجماعي الذي نحتته القرون. فلنتجرأ هنا على القول بأن الدولة المتعددة الأعراق المعنية هنا تتكون من شعوب على تقاطع (جغرافي وثقافيي) عدة دول يبدو أن أي منها لم يحمل – مشروع سلطة سياسية أحادية العرق خاصة به.. وإذا كانت الإمارات البيظانية في شمال لم تشكل سوى “مشروع سلطة سياسية ممركزة” ((عبد الودود ولد الشيخ في عناصر من تاريخ موريتانيا) ذا مدى محدود- وغير مستقر- مثل سلالات دنياكوبي في التكرور (عهد ملوك أسرة ساتيگي)، فإن إمارات الإمامية في فوتا تورو قد حملت ميزات تشبه ملحمة المرابطين (الكتاب والسيف) وامتدت من الغرب حتى نيجيريا. إن هذا المزيج من السلطات المحلية في حالة متصارعة بشكل دائم، والتمردات الداخلية المتواصلة والحركات الإسلامية القوية في منطقة “التداخل بين الأعراق والمنافسة المفتوحة” (سيدو كين) قد شكل مجالا لإقامة السلطة الاستعمارية والوطنية. وهناك عدة عوامل تؤيد منطق البحث في أعماق الكائن الجمعي الموريتاني على الرغم من التشتت الظاهر لبذوره المغذية. ونذكر من تلك العوامل، بشكل مستعجل وغير منظم، ولاء العديد من مواطنينا للبلدان المجاورة خلال فترة إنهاء الاستعمار (أنصار المغرب، أنصار السنغال، أنصار مالي) وانتشار الإيديولوجيات المستوردة في صفوف الشباب بعد الاستقلال (الماوية، الناصرية، البعث، إيديولوجية موبيتو….) و الانبعاث المتكرر للكيانات التقليدية (القبيلة والقرية والطبقة….) والسخرية تجاه الرموز الوطنية وبشكل مذهل مشاركة الشباب الذين ولدوا وتربوا في انواكشوط (التابعين لمنظمة معادية لاستمرارية البلاد) في هجمات دامية ضد الزي الوطني وضيوف البلاد المسالمين. وعلى المستوى السياسي، فإن هذه الهالة من الذكرى وذلك الغياب للتجذر يغذيان انتشار الأحزاب السياسية الشخصية والتحالفات العابرة وبداوة المنتخبين وضعف تبني الجماهير للمشاريع السياسية والصعوبة الكبيرة في وجود أحزاب كبيرة ومستقرة، ذات قاعدة شعبية موثوق بها على النحو المطلوب من قبل العديد من قادة الساحة الوطنية. وباختصار، فإن عدم وجود معالم في ماضينا يحرمنا من المؤشرات المفيدة لنا لتحديد موقفنا من أنفسنا ومن الآخرين، حيث نطفو على السطح ونتمسك بأول سعفة إنقاذ. وهناك بعض المقدمات تشير إلى وثبة جديدة للذاكرة.
بداية الاعتراف
إن الصمت الهائل المحيط بالأحداث الكبرى في تاريخ موريتانيا، تخترقه، من وقت لآخر، أعمال تسير نحو تذكر الماضي والحاجة الملحة إلى الحفاظ على دروسه والاستعجال الأخلاقي لعلاج بعض صفحاته المؤلمة. ويشمل ذلك الاحتفال بأبطال النضال ضد الاستعمار قبل كل 28 نوفمبر في وسائل الإعلام الوطنية (إذاعة موريتانيا، التلفزة الموريتانية) وتوشيح بعض قدامى المحاربين والجهود المبذولة لإعادة تأهيل تراث أبي الاستقلال الوطني المختار ولد داداه رحمه الله، من قبل مؤسسة تحمل اسمه وترأسها زوجته ماري تيريز التي لا تفتأ تذكر دوما بأهمية الذاكرة في حياة الشعوب.
وعلى المستوى الرسمي، فإن الاعتراف بعمل الجيل المعروف باسم “رواد الاستقلال” في خطاب ذكرى 28 نوفمبر في السنوات الأخيرة يشكل قطيعة مع الصمت المعتاد (منذ عام 1978) حول فترة التأسيس.وهكذا حملت الخطابات المتتالية للرؤساء اعلي ولد محمد فال نوفمبر2006) وسيدي ولد الشيخ عبد الله (نوفمبر 2007) ومحمد ولد عبد العزيز (نوفمبر2008) رسالة لإعادة الذكرى حيث لا تخفي العاطفة استشعار واجب التذكير والشعور بذنب النسيان والحاجة إلى إعادة التأهيل. إن تدشين الرئيس الحالي لشارع كبير في انواكشوط يحمل اسم المختار ولد داداه يمثل توضيحا رسميا لذلك. وتشكل فكرة إنشاء متحف للأرشيف العسكري من قبل قيادة الأركان الوطنية علامة أخرى على هذا السعي للحفاظ على ذاكرة متهربة ومجزأة وملقى بها لتقلبات التآكل. وتشارك بعض جمعيات الموظفين السابقين أو نوادي الأصدقاء، المدنية والعسكرية، في هذا الاتجاه الرافض للنسيان، حيث تهتم بمكان (آزوگي، كيفا، ولاته…) أو فترة زمنية (حرب الصحراء 1975 ـ 78، الأحداث المأساوية في 1990 ـ 91…)، مذكرة بالجوانب المتباينة والنزاعية والمؤلمة جدا من تاريخ البلاد الحديث. كما مثلت تسوية “الإرث الإنساني” فرصة لإعادة النظر في لحظات صعبة من ذلك الماضي من خلال عملية مصالحة وطنية أدت إلى إنشاء يوم الذكرى (25 مارس). هذه هي بضع جزر من الذاكرة يلفها محيط فراغ خلال هذه المسيرة الطويلة للشعب نحو الدولة. إن أسباب العرقلة أو الرمزية المفقودة لعدة عوامل قد أثرت ضد بناء الرمز على المستوى الوطني بعد النشيد الوطني والعلم والعملة.
.
إن الاستقلال المكتسب تحت المظلة الفرنسية جعل من الصعب إعادة قراءة تاريخ الأمة بشكل يخالف العقيدة الاستعمارية خاصة أن العديد من الزعماء الدينيين أو السياسيين قد أقروا، لأسباب مختلفة، منطق المستعمر الذي قدم ” لإقامة السلام في منطقة من الفوضى “.
إن الصدمات السياسية والعسكرية التي أعقبت انقلاب يوليو 1978 والانسحاب من أراضي الصحراء الغربية بشكل متسرع كان لها نصيبها من التنويم. وبعد ذلك خلال حكم معاوية ولد الطايع الشخصي، أثيرت أولويات التنمية (الطرق والمدارس ودور الكتاب…)، حيث انحرفنا نحو تقديس الفرد لبلورة تاريخ الأمة في وقت واحد (الحاضر) وتجسيد الرموز في شخص واحد
.
وعلى مستوى النقاش السياسي الداخلي، فإن التجاذب على خلفية ما يسميه البعض “معركة الهوية” بين مؤيدي عقيدة “موريتانيا العربية” والمدافعين عن الهوية الإفريقية الزنجية “المهددة” بموجة التعريب قد أبقى زمنا طويلا على توتر عال وعاطفة ممزوجة أحيانا بالتعصب حول المسائل المتصلة بالتراث التاريخي المشترك. وإن المناخ العاطفي الذي ينشئه ويحافظ عليه هؤلاء المحاربون السياسيون الذين لا يعرفون الكلل قد جعل هذه الأرضية محفوفة بالالغام ، محاطة بمخاطر التعرض لنيران هؤلاء وأولئك وتسكنها “أصوات” تردع عن استكشافها..
وقد امتاز ذلك التدافع ذي الأساس الإيديولوجي العرقي بلعبة الذاكرة الانتقائية وبتأريخ بارع يفضي إلى جميع أنواع الأحكام المسبقة. ويتحدث بدي ولد أبنو، مستنكرا هذا الموقف عن حق، عن ميل البعض إلى تشجيع تطور من خلال “تصادم الذاكرت” بدلا من تفضيل “تلاقي الذكارات” (مقابلة في موقع الحدث).
يشكل تجا وز مثل هذا الانقسام شرطا مسبقا لأية نظرة نزيهة إلى ماضي الشعب، وبطبيعة الحال، لأي توقعات للمستقبل. وقد ساعدت بعض العوامل الأخرى على عدم المحافظة على الأعمال والآثار والمعاني والوقائع والأفعال التي تندرج في إطار ما يسميه المؤرخ الفرنسي بيير نورا “أماكن الذاكرة”، حيث تلتقي المعاني ذات البعد الجماعي وتتوارث جيلا بعد جيل، وتخاطب روح المصير المشترك.
إن طبيعة المناخ وترامي أطراف الأراضي غير المأهولة وأولوية البقاء، وهجرة السكان نحو المدن الساحلية الجديدة المولودة من العدم (انواكشوط وانواديبو)، و التوجه إلى ما وراء المحيطات، وإدارة الظهر لهذه الصحراء الشاسعة، وبدء تاريخ حضري جديد؛ عوامل كا ن لها دورها ڢي هذا السبات.
وهكذا في داخل البلاد لا تزال مناطق معينة من البلاد تحتفظ فقط بآثار الحاضرة الاستعمارية القديمة (تجگجه، فديرك، أم التونسي، كيفا، أطار….) كما لو كنا “في تاريخ مقلوب” ما لم نكن رسل الفراغ. كما يتضمن هذا التراث، بالإضافة إلى السجل الرائع من العلماء متعددي التخصصات، ألفية مزمنة من المعاناة والظلم (الرق، الهيمنة، الظلم الاجتماعي….) ينبغي توجيهها وتذكيرها للوعي الجمعي. وهنا تجاور رموز التمرد (مثل امحيميد مسومة) رومانسية براء ة التسليم (كمثل أمة العلامة المختار ولد بونا) كما يتعايش المجهولون اصحاب “الأسماء المتغيرة” كما هي حال هؤلاء المعذبين في رواية أحمدو ولد عبد القادر التي تحمل ذلك العنوان.
وبشكل مواز يتعاقب الشعراء جنبا إلى جنب معا والمطربون
والمبدعون الذين خلدوا الأماكن وارتجلوا المقاطع الموسيقية والشعرية التي تعكس الأبعاد الخفية لأراضي النهر والجبل والكثيب الرملي. يعكس هذا من تعدد المعاناة وتنوع الإنجازات الطبيعة المركبة لذاكرة جريحة هنا، ومقاومة هناك، ورائعة، وعلى كل حال قادرة على التجاوز والبقاء على قيد الحياة.
الخلاصة
إن العناية الممنوحة لمسألة الذاكرة الوطنية يبررها الحرص على صيانة كنوز تاريخ موريتانيا ومعاينة عدم مقروئية ذلك الماضي المتقلب ورفض البدايات المتكرره.
ألا تساعد الإضاءة التاريخية على فهم أنفسنا بشكل أفضل واكتشافها وإدراك ظروف تشكل الكيان الوطني؟
يرد أول رئيس موريتاني على ملاحظة كثيرا ما سمعت خلال فترة حكمه بأنه “أنشأ موريتانيا من لا شيء” حيث كتب في مقدمة “وصيته السياسية”: “كيف يمكننا أن ننسى التركات التي تراكمت على مر آلاف السنين والحضارات العديدة التي تفتقت هنا وهناك فوق أراضي موريتانيا المستقبلية وكيف نتجاهل الدور البارز للإسلام، ديننا منذ ألف سنة؟، لماذا نتحدث من خلال الربح والخسارة عن الفترة الاستعمارية التي شكلت، على امتداد ستين عاما، أولى ملامح الكيان الحديث المسمى موريتانيا؟ “( ص 14)
إن عملا متعدد التخصصات وموضوعي قد يمكن من معالجة هذا الرصيد التاريخي الذي وضع في بيات، حيث تغرز فيه أعمدة استكشاف على غرار ذلك التنقيب عن المعادن الذي لم تسلم منه أي من مناطق البلاد بكلفة آلاف رخص البحث. وربما تسهم إقامة يوم وطني للذكرى في فهم أفضل لوقائع ماضينا البارزة وتكريم الشخصيات الوطنية التي تتجاوز الحدود المحلية وتحديد المواقع التي تستحق انتشالها من النسيان واستعادة كرامة ضحايا الظلم. غير بعيد من المقالع المحفورة في گلب الغين وكدية الجل ترقد جبال تورين، مكان ترسب تاريخي منذ المعركة بين القوات الاستعمارية وجنود الشيخ محمد المامون (طيحة تورين، مفاجأة تورين التي خلدها في قصيدته “صنگت تورين، حامية تورين) وحتى اشتباكات العام الماضي (هجوم تورين) مرورا بمعارك تورين (ديگات تورين) خلال حرب الصحراء..
إن هذا – لمكان من أمكنة الذاكرة حافته تنزف باستمرار وقدمت فيه تضحيات جسام باسم الوطن كما توجد عدة أمكنة مثله يتعين إخراجها من النسيان واللامبالاة. وبين مرحلة الاعتراف ومرحلة النصب التذكاري سيقطع الطريق يوما ما وسيكون صلة لا تنفصم مع اعماق موريتانيا.