الروائي جودت جالي يقدم: رواية ترصد معاناة شخصية شيوعية يتمسك بمبادئه رغم المخاطر/ حمدي العطار
8 مارس 2022، 00:23 صباحًا
حاول الروئي ان يركز اهتمامه على شخصية ساري ومدى تطور تلك الشخصية وتغييرها سلوكا وموقفا منذ انتمائه للحزب الشيوعي ، وصولا الى الحملة التي استهدفت قواعد الحزب الشيوعي عام 1979 ، وفي الجزء الاول من الرواية استخدم تقنية السرد المختلط بين الماضي والحاضر ومن الطبيعي ان تلك الاحداث الصعبة كانت تشكل خلفية تاريخية لكيفية عرض افكار ومواقف شخصية ساري اجتماعيا وهو متزوج وله طفلة وبنفس الوقت مهدد بالاعتقال وحتى التصفية، ساري يعد الالتزام والثبات على مبادئه لا يمثل فقط اخلاصه للحزب الشيوعي وايمانه بإن الحزب – دائما على حق- بل نرى ساري يقاوم الاجهزة الامنية للدفاع عن (كرامته الشخصية) إزاء محاولة التركيع او التسقيط. هو ليس لديه شيء ضد حزبه بل هو لديه هاجس احتراسي ويلجأ الى التكتم في فترة حرجة ومع ذلك يفصح عن احتمال أن يكون هو مخطئا “ربما ايضا يكون مخطئا في شكوكه وكل ما في الأمر أنه متبلبل التفكير وأنه يجلس الآن أمام رجلين بقيا مع تعليمات محددة وجهها الحزب اليهما وعليهما تنفيذها، وهو لايفعل بوجوده معهما سوى إرباك ما تم التخطيط له”ص15
تقنيات السرد
اذا كانت الرواية تحكي قصة فإن هذه الرواية كانت قادرة على تناول الجانب السياسي لشخصية ساري في اطار قصة قد لايطول بها الزمن لكنه استخدم الفلاش باك لإغناء النص، من خلال ربط الحكاية او القصة بالحبكة ولديه رغبة بتقديم شيئ مختلف عما يقدم في مثل هذا النوع من القصص، فالبطل يبدو بمنتهى الهدوء وكذلك يعاني من شدة القلق وكيفية التخلص من الاجهزة الامنية والمحافظة على عائلته الصغيرة ” هل تصدقين يا أمينة أن البعثيين هم من دفعني الى الانتماء الى الحزب الشيوعي؟ لم أكن قد تجاوزت الرابعة عشرة حين أمسكوا بي وحجزوني شهرين في معتقل مديرية الأمن العامة بعد أن راقبوني لأن أحد رجال الأمن شاهدني أحمل كتابا عنوانه (الصحافة العراقية)..لم أكن أعرف ما هي الشيوعية وما هو الحزب الشيوعي وما علاقة هذا الكتاب بأسئلتهم الكثيرة ..ولكني بالنتيجة خرجت من المعتقل وانا أملك أجوبة على أسئلة كثيرة أخرى أكثر أهمية في حياتي راودتني من قبل..حدث هذا لآلاف غيري..إنهم يدخلون الى السجن بريئا ليس لديه ما يخشى منه ويخرج من السجن وهو جدير بأن يخشوه”ص29 بهذه المفارقة الامنية ينتمي ساري للحزب الشيوعي ويكون من ضمن الفريق الصحفي للحزب.
الجوانب الاخرى
هناك محاور متعددة للرواية منها الموقف العقلاني للشيوعي الملتزم من الدين ” وبخ صديقا له لأنه كفر وقال له “إحسبها ببساطة ..إذا كان الله موجودا فالكفر به سفاهة، وإذا لم يكن موجودا فالكفر به تفاهة” 24 وكذلك من العلاقات الاجتماعية ( الزوجة والاصدقاء والرفاق) فزوجته تعرف انه صاحب مبادئ، وفي تقنية صيرورة يرجع بنا الروائي الى فترة تعرف ساري على امينة عند مشاهدة (النخلة والجيران) وتعليقات ساري الذكية للربط بين الرواية والمسرحية.
ويلعب هديل الحمام في مخيلة ساري متعة وحزن ويتحدث عن هديل الحمام بكلمات تشبه الشعر فتقول له زوجته – لقد قلت عن هديلها ما يكفي فماذا عن هديلي؟\ – الآن أقول لك بماذا تهدلين؟ وكانت امنيته وهو يرحل الى مكان عمله لترتيب نقل الاثاث الى محل سكنه البديل (أن يلقي نظرة سريعة على اغصانها لعله يرى الحمامة التي لم يفارق هديلها خياله وهو نائم)ص44 فهل يتوفر وقت لهديل الحمام!؟
سنكمل القراءة النقدية لهذه الرواية التي تنتمي للواقعية الانتقادية فيها من الحداثة وهي تخوض في سياقات ثقافية متنوعة
بعيدا عن المباشرة والوعظية
اجتهد الروائي كثيرا في الابتعاد عن الواقعية المباشرة على الاخص وهو يقدم شخصيات سياسية (شيوعيين وبعثيين) لكنه حاول ان يجعل السرد فنيا وجعل رؤيته مغايرة حتى لا تتحول الرواية الى نص تقليدي سياسي وتقتصر الرواية الى الوعظية، لذلك عندما جعل شخصية “ساري” يذهب الى مدينته ومحل عمله في محطة السكك الحديدية بدأت الاسترجاعات والذكريات والتداعيات هي التي تبني شخصيات جديدة في الرواية وسرد الاحداث يبدو اكثر ممتعا ” ما أن يصبح – ساري- داخل الباحة الصغيرة حتى يلتفت الى حيث شجرة ورد جوري أحمر وحيدة مزروعة أمام باب الحمام في حيز مسيج..لم يزرعها هو بل وجدها هناك حين استلم الدار…ربما تبقى الدار شاغرة فترة طويلة وتعاقب الأيام ويثبت الذبول..اعراض الذبول يفكر: هذا الورد الجوري ذبوله أسود وهو يمسك بتلة ما بين إبهامه وسبابته ويفركها برفق”ص57 هذا المقطع يجعل السرد تركيبي من الناحية الفنية فهو يرمز الى الاهمال الذي يؤدي الى الذبول حتى في مجالات السياسة والورد الجوري يعبر عن هذه الجزئية!
شخصيات متنوعة
عمد الروائي الى بناء شخصيات متجددة ومتنوعة يستذكرها “ساري” وهو يخطط لنقل اثاثه من البيت الذي يسكنه في العمل الى بغداد ، فيخلق شخصيات مصرية (تلك الشخصيات التي كانت موجودة في العراق عام 1979) ، ومنها (متولي وجمعة) ويختار نموذجين من المصرين احدهما طيب وعفوي وهو متولي اما جمعة فهو خبيث، مبتعدا عن التعميم الذي لا يمت الى الواقع بصلة “ساري يسأل متولي يوما:- هل تعرف إمام؟\ -إمام ؟إمام مين؟- إمام ..الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم!\-لأه..مين دول؟\- انت مصري وخريج معهد عال.. ولا تعرف إمام ونجم؟\- لا والله معرفهمش..ما لهم؟\- ولم تشاهد فيلم العصفور؟ ويسرد له ساري قصة شيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وكاسيتات أغانيهما التي توزع سرا حتى في العراق ودورهما في الإضرابات والاعتصامات وقرأ له شيئا من قصيدة ( مصر بمة يا بهية يم طرحه وجلابية) وينتهي الحوار الى دعوة ساري لمتولي للحضور في بيته لتناول ا لعشاء! وحينما يخبر متولي ما دار بينه وبين ساري من حوار عن شيخ إمام واحمد فؤاد نجم الى زميله المصري جمعة يرد عليه جمعة بخبث ( رفع جمعة وجهه وقلب مقلتيه باتجاه سقف الورشة المكون من الصفيح محاولا التذكر ثم نظر الى متولي فاتحا عينيه على سعتهما وقال بصوت خفيض:- آه..سمعت ..دول شيوعيون ولاد كلب\ قال متولي بصوت خفيض أيضا:- شيوعيون إيه.. أحمد فؤاد نجم بيكتب شعر والشيخ إمام بيلحنه ويغنيه..والله أغاني حلوة يا جمعة…\ وبعدين\ – عزمني عالعشا اليوم عشان يحكيلي أكثر عنهم\ تهلل وجه جمعة واطلت من عينيه نظرة ثعلبية:- ابسط يا عم..ده مراته حلوة قوي!\ – إيه اللي أبسط ومراته.. إنته بتقول إيه؟\ – دوله شيوعيين\ يعني إيه؟\ إسال أي واحد في العراق يقولك الشيوعيون همه كده..وحرك يده حركة داعرة وهو يضيف- نسوانهم منفتحات عالآخر وآخر انبساط…وما له ؟ مفيش أحلى من الثقافة ومعاها شوية من اللي بالي بالك..هي تستاهل واحد يبقى شيوعي عشانها”ص62 ويفرض جمعة نفسه ويذهب مع متولي الى بيت سالي لتناول وجبة عشاء ويتصرف بغرابة بنظراته الوقحة لزوجة ساري امينة (وأخذت أمينة تقلد نظرات جمعة اليها فيما كان ساري يقهقه. في تلك الليلة ناما في الفراش ولم يحترسا كالعادة من أن تسمع جارتهما صوتيهما المتأوهين من شدة انصهار جسديهما ببعضهما بعضا أو صوت السرير وهو يحتك بالجدار الفاصل بين البيتين، الجدار الذي بسمك طابوقة فقط في بيوت العمل الشعبي )ص64
محاور اخرى
السارد يؤشر كل الصعوبات التي تجعل مقاومة بطله ساري قاسية وصعبة جدا فضلا عن حيرة زوجته امينة التي تؤمن بنزاهة واخلاق ومبادئ زوجها لكنها تخاف ان تخسره بسبب بطش السلطة وغدرهم، والرواية اقتربت من هموم الشيوعيين بالحديث عن الاوضاع العادية والصعوبات التي تقف بالضد من ابطال روايته ، فيذكر شهامة جاره (بدر) ومساعدته في نقل اثاثه بالقطار، وام زكريا الارملة الكردية التي بذلت اهتماما خاصا بأمينة وبطفلتهما وكذلك ابنتها (سحاب) التي يترك لها المجلات “ينتهي كل شيء الآن، على الاقل بالنسبة لساري وأمينة، في بلد يكون انقلاب الحياة أو اختفاؤها من عاديات الأمور، علاقات إنسانية تنسج شرانقها بترو وجمال ثم تتحطم فجأة قبل أن تكتمل وينحل النسج مزقا، ويذوب مستحيلا الى ذكريات مؤلمة”ص75 .
اقتناص التفاصيل
الروائي يشد انتباه القارئ وهو يسرد واقعية الاحداث برؤية فنية ويقتنص تعليقات الناس ومواقفهم من الاحداث السياسية عام 1979 عندما بدأت حملة تسقيط واعتقال الشيوعيين من قبل نظام البعث، هو لا يحكي ما يراه وحسب بل هو يتمكن من التعبير عن الظروف الاجتماعية والسياسية من خلال التفاعل مع الواقع وبأسلوب ممتع لكنه مؤلم ، فيزج بشخصية اشكالية تشبه كثير من الشخصيات الرومانسية الثورية في ذلك الوقت مثل شخصية (يونس)” ارتبط يونس بعلاقة مع فتاة جذبه اليها أول الأمر جمالها وهوايتها قراءة القصص والمجلات الفنية، وبرغم كونها ذات سمعة سيئة، تزوجها بدافع رومانسي هو ، كما رجح ساري ، تحقيق نجاح في الحياة بانتشال فتاة حلوة من واقعها القبيح وإصلاحها لتكون فتاة واعية رفيقة له في مستقبل رسم له صورة نضالية زاهية من بنات خياله”ص46 ويقدم الروائي تحليلا متمكنا لشخصية هذه الفتاة وكذلك النزعة الثورية المندفعة لرفيقه يونس(شيء يشبه مزج الرومانسية بالحسية الفوارة دون ضبط المقادير وفي ظروف غير مناسبة..كان اول تأمين لتجنب الضرر اتخذه ساري هو صد جميع محاولات يونس لإدخالها في التنظيم – لم يحن الوقت بعد.إبذل مزيدا من الجهود لتثقيفها. أنت الشخص المناسب لهكذا دور”ص47 اما تحليل شخصية ( واصفة) زوجة يونس فيه الكثير من المتعة والتشويق “لكن لم يبد على واصفة خلال الأشهر الماضية أنها من معدن قابل لإعادة السبك.نفس أسلوبها في الكلام وابتسامتها التي قد يرافقها غمز خفيف بالعين، وحركاتها المتفجرة أنوثة وإغراء..وقد لاحظها مرات بحضوره وحضور زوجها وشقيقه تنحني انحناءة مبالغا فيها بحجة رفع صينية أقداح الشاي مثلا فيبدو ثدييها من تقويرة الثوب الواسعة، أو بالعكس تنحني الى الجهة الأخرى لأمر ما فتبرز تقاطيع مؤخرتها وحدود سروالها الداخلي وتتعمد أن تبقى هكذا أطول من اللازم. أكثر ما في قصة يونس وواصفة إزعاجا أنها كانت على علاقة سابقة مع شاب من حزب البعث يدعى شميل، ولأن شميل هذا يعرف ميول يونس الفكرية..صار يشيع تفاصيل عن علاقته بواصفة، علاقة بالغة الحميمية الى درجة أنه يعرف عدد الشامات على جسدها وأين توجد في أماكن لا يعرفها إلا من رآها عارية تماما”ص48
الخاتمة
سردية فيها معنى مضمرا ومعنى آخر سفورا، يعطي للقارئ حق التأويل والحكم، ويتداخل فيها الواقع المر لمرحلة تاريخية سياسيا تعد مفصلية بخيال الروائي لبناء الشخصيات الروائية تاركا للنقد حرية التقييم ، شخصية ساري تشبه الكثير من القراء ولذلك قدمت بشكل فني ناضج ليس فيها تمرد او تذمر لأنه كان يعاني من انتمائه للحزب الشيوعي وتمت مطاردته بل تشعر بإنه لا يلوم الضحية بقدر ما يفضح الجلاد، رواية تستحق القراءة والاهتمام.