هواري بو مدين وزواج المتعة/ دكتور محيي الدين عميمور
27 مايو 2022، 01:58 صباحًا
في كتاب ثري بالمعلومات صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ببيروت تناول الرائد عبد السلام جلود الموقف الجزائري من انقلاب الصخيرات في يوليو 1971، وقال أن القذافي طلب يومها من هواري بو مدين تقديم الدعم العسكري لمساعدة المحاولة وإنجاحها لكن بو مدين رفض، ثم طُلب منه أن تقوم القاذفات الليبية “الإستراتيجية”بعبور الأجواء الجزائرية لضرب القصر الملكي، فرفض الرئيس الجزائري ذلك أيضا (ص188).
وكنت تناولت ذلك سابقا لكنني أحسست أن علي، كشاهد على ما حدث، أن أستكمل ما تفضل به رقم 2 الليبي في مذكراته، التي أرجو أن يقرأها كل عربي.
فعندما قام انقلاب الصخيرات كانت العلاقات الجزائرية المغربية تمر بفترة من الهدوء أسميتها “السلام البارد”، في مقارنة بتعبير “الحرب الباردة”، حيث ساهمت لقاءات تلمسان وإيفران بين الرئيس بو مدين والملك الحسن الثاني في قلب صفحة الغزو الفاشل الذي قامت به القوات المغربية للأراضي الجزائرية في أكتوبر 1963، والذي يطلق عليه البعض، متعمدا، “حرب الرمال”، لتفادي كلمة “الغزو”، وهو ما لم نتشنج ضده على أمل أن تلتئم الجراح.
كان الرئيس بو مدين، كما عرفته بعد ذلك أكثر فأكثر، يؤمن بأن الخروج من مرحلة التخلف وتحقيق الانطلاقة الاقتصادية الاجتماعية يرتكزان على ضمان الاستقرار في الجزائر وحول الجزائر، ويدرك بأن تحقيق الأمن القومي الجزائري يتطلب الاهتمام بما وراء الحدود، أي أن حدود الأمن القومي تتجاوز الحدود الجغرافية للبلاد، ومن هنا كان يتابع الأحداث التي تمر بها المنطقة المحيطة بالجزائر بكل دقة واهتمام.
ولعل هذا هو ما يفسر حرص الجزائر دائما على احترام الشرعية الدولية وإنهاء كل القضايا العالقة المتعلقة بالحدود الجغرافية، وحرصها على احترام مبدأ عدم التدخل في شؤون الجيران، واحترام الاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأشقاء، وهو ما يعني الحرص على ألا يكون هناك نقص في فهم ما يحدث، بما يمكن أن يؤدي إلى خلل في التفهم، ثم إلى اختلال في العلاقات تقود إلى صدامات قد تبرر التدخل الأجنبي.
وتجمعت لدينا عصر ذلك السبت من يوليو، وعبر البرقيات الصحفية والاتصالات الهاتفية مع بعض الإعلاميين الدوليين، صورة تؤكد حدوث عملية انقلابية ضد العاهل المغربي، وكنت أتردد، لمواصلة استكمال جوانب الصورة، على مكتب الأمين العام لرئاسة الجمهورية الدكتور محمد أمير، الذي يتصل مباشرة بمكتب الرئيس عبر باب جانبي.
وكان الرئيس يلتحق بنا بين الحين والآخر ليطلع على آخر التطورات ويلح على ضرورة إقامة اتصال هاتفي مع الملك الحسن الثاني، وهو ما تم بالفعل، وكان الرئيس الجزائري هو أول من تحادث مع الملك المغربي إثر توقف إطلاق الرصاص، وعرف منه تفاصيل ما حدث، وهكذا كان بو مدين أسرع القادة العرب فهما لأبعاد الحدث، وكان هذا شأنه مع كل الأحداث التي عرفها الوطن العربي.
ويطرق أحد الموظفين باب مكتب الأمين العام الخارجي ويدخل ليبلغه بأمر ما، فيخرج الدكتور أمير ونبقى وحدنا، الرئيس وأنا، في المكتب، ويدق جرس الهاتف فأسرع لرفع السماعة، وإذا بعامل “البدالة” يبلغني بأن العقيد معمر القذافي على الخط، وهو يريد أن يتحدث مع الرئيس، الذي لم يكن موجودا، بالطبع، في مكتبه.
وطلبت من العامل أن يدعو العقيد إلى الانتظار لحظات، وبعد استشارة الرئيس أعطيته السماعة فجلس إلى مكتب الأمين العام للحديث مع محاوره، واتجهت أنا نحو باب الخروج لأتركه وحده، فإذا به يشير لي بيده أن أظل في مكاني.
وهكذا رحت أتابع حوارا من جانب واحد، كان فيه الرئيس في البداية بالغ الهدوء، ثم أحسست بأنه بدأ يتصرف بنوع من ضيق الصدر وهو يكرر عباراته أكثر من مرة.
ولم أكن أسمع بالطبع ما يقوله الجانب الآخر، لكنني كنت أتابع ما يقوله الرئيس ويكرره من أن هناك بالفعل محاولة انقلابية حدثت في الصخيرات، وبأنه تحدث مع الملك بعد خروجه من مخبأ أمين، سليما معافىً ويسيطر على مجرى الأمور.
وراح صوت الرئيس يرتفع وهو يعيد ما قاله ويؤكد لمحاوره بأن القضية هي انقلاب قصر وليس ثورة شعب، وليس هناك ضباط أحرار ولا عهد بائد ولا هم يحزنون.
واختتم الرئيس المكالمة ليلتفت نحوي قائلا وكأنه يحدث نفسه : العقيد يريد مباركة من الجزائر ليرسل طائراته لقنبلة قصر الصخيرات و”القضاء على العهد البائد” كما يقول.
ويضيف الرئيس بسخرية مريرة: أنا على يقين من أنه، في هذه اللحظة على الأقل، لا يملك حتى خريطة سياحية تبين موقع القصر في المغرب.
كنت أعرف أن ليبيا مثل المغرب دولتان بحريتان، وكان يمكن للطائرات “الإستراتيجية” بتعبير الرائد جلود، أن تتجه فوق مياه البحر الأبيض الدولية، وعندما سألني الرئيس عن تحليلي لموقف العقيد قلت له ببساطة، مؤكدا ما قاله من أن طائرات العقيد لن تعرف طريق الصخيرات، إنه يزايد لدى جنرالات المقاهي في بيروت، وسوف يقول لهم أنه كان سينهي الحكم الملكي في المغرب لولا أن بو مدين حال بينه وبين ذلك
ولعلي هنا، وللأمانة التاريخية، أكرر ما سبق أن كتبته منذ عدة عقود من أنني تساءلت أمام الرئيس يوماً عن تقصيرنا كبلد ثوري في دعم المعارضة الوطنية لبعض الدول الشقيقة، وأتذكر أن الرئيس رمقني بنظرة خيّل إليّ أنها ترثي سذاجتي، ثم قال لي بالحرف الواحد حول بعض عناصر المعارضة التي كنت أعنيها : ” بعض هؤلاء كانوا يجيئون إلينا ويتناقشون، بعلمي، مع جماعتنا، ثم يأتيني بعد أقل من أسبوع وزير خارجية البلد المعني بالمعارضة ليسلمني محضرا حرفيا للحوار الذي جرى عندنا”.
وأقول هنا، والرئيس بو مدين في رحاب الله، أنه لم يكن صحيحا، كما كان يدعي البعض، أنه كان يعمل على تقزيم الأشقاء أو الجيران انطلاقا من تطلعات تسلطية تريد أن تكون للجزائر اليد العليا في المنطقة، فقد كان رجلا ذا نظرة إستراتيجية تفهم معنى التوازن وتدرك متطلباته، على مستوى الوطن أو على الساحة الإقليمية والدولية، ويرفض منطق الغالب والمغلوب في التعامل مع أي خصام بين الأشقاء، وهو صاحب تعبير أنه إذا كان الأسطول الأمريكي يفرض وجوده في البحر الأبيض فإن وجود الأسطول السوفيتي لا يمكن أن يكون مرفوضا.
ولقد سمعت من بو مدين أكثر من مرة قوله إن استقرار الدول المجاورة هو ضمان لاستقرار البلاد، واستقرار العرش المغربي ضرورة لاستقرار المغرب، وبالتالي لاستقرار الجزائر.
ولكنني أقول أيضا أنه كان في الوقت نفسه يرفض أن يفكر أحد في تجاوز الجزائر أو تجاهل وجودها أو استغلال مشاعرها الوحدوية والمزايدة عليها، ولم يكن ممن يقبلون ركوب القطار بعد انطلاقه، أو ممن يمكن أن يُفرض عليهم أي أمر واقع مهما كانت الظروف، وهو ما أكده في وقفته الحادة ضد وحدة “جربة” الاندماجية بين ليبيا وتونس التي تمت بشكل مفاجئ (يناير 1974) وقال لي بشأنها إن الوحدة مثل الزواج، وزواج ليلة يجب الإعداد له في أكثر من عام، وما حدث في جربة لا يمكن إلا أن يعتبر “زواج متعة”.
وأضيف لذلك أن بو مدين، في تصوري، كان يؤمن بأن الجار القوي يبعث على الاطمئنان أكثر بكثير من الجار الضعيف، لأن التعامل معه يكون دائما على أساس قواعد واضحة متفق عليها، تضمن المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة، ووجود أي قطر مجاور في وضعية ضعف يمكن أن يجعل منه ثغرة يتسرب منها النفوذ الأجنبي، لأن الجار الضعيف قد يلجأ إلى الابتزاز واللعب على عناصر التناقض بين دول المنطقة.رحم الله القادة بو مدين والحسن الثاني والقذافي وأطال في عمر عبد السلام جلود..