إليف شافاك روائية تركية من مواليد 25 أكتوبر 1971 في ستراسبورغ بشرق فرنسا، تكتب باللغتين التركية والإنجليزية، وقد ترجمت أعمالها إلى أغلب اللغات العالمية؛ و من هاهنا تطرح ترجمة هذه الأعمال مشكلة في أن عملية النقل من لغة إلى لغة أخرى محفوفة بالمخاطر بين اللغة الأم و اللغة الهدف. ذلك أن لكل لغة استراتيجية وغايات وأهداف لها ارتباط كبير بعملية تسويق المنتوج الأدبي والحث على فعالية القراءة، ومن ثم يجد القارئ نفسه أمام اختيارات المترجم ودار النشر والتي ترتبط بعادة القراءة عند القارئ المستهدف. و نحن نقرأ رواية قواعد العشق الأربعون (The Forty rules of Love) في ترجمتها الفرنسية صوفي، حبي(Soufi ,mon amour) ، نجد أنفسنا أمام مفارقة العنوان؛ هذه العتبة المهمة في قراءة هذه الرواية بين اللغة الإنجليزية و اللغة الفرنسية، و التي تتأسس على حمولة معرفية مهمة تجعل القارئ باللغة الإنجليزية يتلقى العنوان و العمل بمرجعية الحكاية الثانية المرتبطة بشمس الدين التبريزي و جلال الدين الرومي، في حين قد يتلقى القارئ باللغة الفرنسية العمل ضمن أفق الحكاية الثانية المرتبطة بالراوية و تعلقها بكاتب مخطوط (Doux blasphème). ومن هاهنا تحصل المفارقة والتباين خاصة إذا جاء قارئ عربي للنسخة الأصلية وقارئ عربي آخر للترجمة باللغة الفرنسية، فسنجد أنفسنا أمام حيرة وقلق مهمين، وقد يصل إلى درجة التوهم بأن النسخة المترجمة عمل آخر لا علاقة له بالعمل الأول. ومن ثم يبقى السؤال معلقا؛ لماذا اختار المترجم إلى اللغة الفرنسية هذا العنوان؟
تقوم الرواية على حكايتين متوازيتين الرابط بينها العرفان والتعلق بعالم التصوف؛ تقوم الحكاية الأولى على سرد علاقة بين الراوية ايلا وكاتب مخطوط أُرسل إليها لتبدي رأيها فيه بوصفها خبيرة قراءة، علاقة تبدأ بالسؤال والحيرة لتتحول إلى الإعجاب ومن ثم إلى التعلق فالمغامرة والتضحية بكل شيء من أجل حلم عرفاني يكشف عن التحول من حياة العربدة أو التيه والضياع إلى رحلة البحث عن الذات وراحة البال والاستقرار للوصول إلى حقيقة الوجود وحقيقة الذات وحقيقة العشق والتعلق. في حين تقوم الحكاية الثانية وهي موضوع المخطوط التي كلفت الراوية بقراءته وإجراء الخبرة عليه، والذي كان سببا في تعرف الراوية إلى مؤلفه ومن هاهنا تتداخل الحكايتان وتترابط وتتقاطع وتتناوب في الحضور والغياب بشكل مخطط له ضمن استراتيجية الكتابة والرؤية الفنية لدى الكاتبة. نجد أن الذي يشدّ الراوية إيلا روبنشتاين إلى عزيز مؤلف المخطوط (doux Blasphème) “لغة نابية حلوة” إذا جازت الترجمة، هو الجانب الصوفي العرفاني، إذ تثير أفكار عزيز في مخطوطه و في رسائله إليها فضولها، و التي تجد نفسها منجذبة إلى هذا العالم العرفاني العجيب، و لهذا تكثر الأسئلة و تنفتح في محاولة لمحاصرة الجواب عن العشق لما يسمو الإنسان في المحبة و الإخلاص و الوفاء و التعلق بمن يعشق.
تقوم حكاية المخطوط “قواعد العشق الأربعون” على تتبع رحلة شمس الدين التبريزي إلى قونية لملاقاة جلال الدين الرومي و بكثير من الحكمة و المعرفة و بكثير من التشويق و الإمتاع، يجد القارئ نفسه أمام عالم غريب و عجيب يشدّه إليه، حيث يبدو جلال الدين الرومي في بداية الحكاية عظيما ومبجلا، صاحب مهابة و جلال، يحضر بموكب عظيم و يغادر به، يحضر مجلسه الكثير من عباد الله، وفي المقابل يبدو شمس الدين التبريزي على قد حاله، درويش في رحلة البحث عن الله، و تحرص الراوية على عنصر المفارقة بين الرجلين، إلى أن يتم اللقاء لما يعترض التبريزي موكب جلال الدين الرومي، ويطرح عليه سؤالا مفارقا يحتاج إلى الكثير من الحكمة والرزانة و التروي. سؤال عرفاني يقتضي جوابا عرفانيا بامتياز. .”… قل لي، من فضلك، من الأكبر، في رأيك، الرسول محمد أو الصوفي البسطامي؟
ما هذا السؤال؟ كيف لك أن تقارن بين نبينا المبجل –عليه السلام- أخر الأنبياء وصوفي سيء السمعة؟” (الرواية:212). لعل هذه المفارقة هي مما يخلخل الأفق و يجعل المتلقي متشوقا لمعرفة الجواب، والذي سيمثل النقطة المفصلية لتطور الأحداث و تبدل المواقف، و يعطي مبررا منطقيا و فنّيا و فكريا و حتى جماليا فيما بعد؛ وسيسمح للتبريزي في أن يحتل مكانة خاصة عند جلال الدين الرومي، بل سيؤدي إلى تحول هذا الأخير إلى شاعر كبير بعدما كان رجل دين.و يكون ثمرة هذا اللقاء “قواعد العشق الأربعون”. انظر إلى جواب جلال الدين الرومي:
تقوم الرواية على التوازي بين حكاية الراوية مع زهير مؤلف المخطوط، و حكاية التبريزي و جلال الدين الرومي و “قواعد العشق الأربعون”؛ مما يجعل القارئ يتلقى الحكايتين بشيء من المقارنة و الموازنة و المقابلة لتشابه مسار الحكايتين، و كان ما وقع بين إيلا و زهير يشبه لما وقع بين التبريزي و جلال الدين الرومي، و لعل من هاهنا تبدأ المفارقة التي تتجاوز كل تشابه أو مماثلة في أن نَفَس الكاتبة لم يكن واحدا، و لعل سبب التباين هو أن الكاتبة تستند في حكاية “قواعد العشق الأربعون” على التاريخ و التراث و على ما استقر في ذهن القارئ من أصل الحكاية، و أن الكاتبة في الحكاية الثانية تستند إلى الخيال و الواقع والمعيش المعاصر، و تقترح مخرجا صوفيا لما يعاني منه المجتمع المعاصر من صراع و أزمات نفسية وانسداد للأفق، و من ثم تعوّل الكاتبة كثيرا على سحرية العالم الصوفي وعلى عرفانية المتصوفة لتنسج لنا خطابا يحاور الذات و النفس و الروح بكثير من الحبية و المودة و الإخلاص. إن التعويل على روحانية التصوف في محاورته للواقع انطلاقا من قدرته على الكشف على عوالم غريبة وعجيبة، قد تعجل القارئ منجذبا إلى هذا الشرق السحري والعجيب الذي يجمع سحرية المكان وغرائبية الأحداث وروحانية الصفات والأفعال.
إن الربط بين الحكايتين يجعل القارئ في حيرة من أمره حول أصل الحكاية؛ ولهذا قلت في البداية أن عنوان الرواية باللغة الإنجليزية قد يحيل إلى حكاية “قواعد العشق الأربعون”، في حين أن عنوانها باللغة الفرنسية قد يحيل إلى التصوف وحب المتصوفين. و لعل الراوية كانت حريصة على الربط بين الحكايتين، بل إنها تصرح في الصفحة 259 بذلك في رسالة إيلا إلى حبيبها عزيز “نورتهامبتون ، 13 يونيو 2008
حبيبي عزيز
ستعتقد أنني مجنونة، لكن هناك شيء واحد أريد أن أسألك عنه: هل أنت شمس؟
أم العكس؟ شمس هو انت” إن هذا التصريح هو بمثابة توجيه للقارئ حتى يربط بين الحكايتين من خلال العشق الصوفي، ومن هاهنا قد يقع التباين بين القراء حول مدى نجاح الكاتبة في الربط بين العشق الصوفي قديما و حديثا؟