” نداء الروح ” روايةٌ من الأدب الواقعي، تقترب كثيرا من أدب السيرة الذاتية دون أن يُصرح بذلك الكاتب، وذلك ربما لأنها ليستْ رصدا حقيقيا لسيرة الكاتب، الذي جسده في الرواية د. سعيد ابن محافظة الفيوم، ورغما عن عدم التصريح، يلحظ القارئ وجود نقاط تماس بينهما، أهمُها دراستهما للطب، ورغبتُهما الجامحة في تخليص العالم من الأمراض المتوطنة، التي انتشرت في المجتمعات الفقيرة انتشار النار في الهشيم، فرمَّلت نساء، ويتَّمتْ أطفالا، وتركت العديدَ من الأسر بلا عائل ينهشها الفقرُ والجوع والحرمان .
ووجه الشبه الثاني، يتمثل في نشأتهما( الكاتب، والبطل) في بيئة ريفية تُثمن العادات والتقاليد، وتؤصل لقيم النخوة والشهامة والرجولة، فينصهر أبناءُ تلك البيئة في مشاكل المجتمع، يُعايشون، بل يعيشون أحداثه، وترنو أنظارُهم للبطل (السوبر مان)، الذي تنعقد عليه آمالُ تخليص العالم من ويلات الحروب، والصراعات بين الدول، وتبرز تلك المُعايَشة في موقف بطل الرواية (سعيد)، الذي جلس وكأنَّ علي رأسه الطير بعد يوم عمل شاق، يُتابعُ (نشرة الأخبار)، فتفتر أسنانُه عن ابتسامة خفيفة كلما سمع خبرا سعيدا، ويُخيم علي وجهه الحزن كلما صكت مسامعه أخبارُ الصراعات الدامية في أرجاء المعمورة من أقصاها إلي أقصاها!
في البداية، يلفت نظرك عنوانُ الرواية ” نداء الروح ” باعتباره العتبةَ الأولي التي تأخذك إلي عالم النص المملوء بالأحداث والشخصيات والمواقف، التي تصنع الحبكة أو العقدة، وتتضافر تلك الشخصيات والأحداث في ثنايا الرواية صانعة الدراما التي تجري علي مسرح الرواية .
يُبرِز العنوان المسحة الصوفية، التي يفني فيها الجسدُ، وتسمو الروح، فتتضاءل أمام صاحب تلك الحالة زخارفُ الدنيا، وملذاتها، ويتطلع إلي النعيم الأكبر، الذي وعد الله به عباده الصالحين، ويظهر أثر البيئة في ذلك العنوان، فبساطةُ البيئة الريفية، وقصرُ ذات يد أصحابِها، كلُّ ذلك يجعلهم يزهدون في الدنيا طوعا أو كرها، ويتطلعون إلي ما عند الله؛ لأنه خيرٌ وأبقي !
وتأتي عناوين : (الحضرة، ومولد أبو حصيرة، وحلقة الشيخ، ومولد العارف بالله، ودين مولاي، وحلقة الشيخ، والضريح) داخل فصول الرواية؛ لتكشف عن هيمنة هذه النزعة الصوفية علي البطل، وانزواء الجسد خلف الروح، إذ تتلاشي (الأنا)، وتهيم القلوب شوقا لما أعده الله للطائعين من نعيم مُقيم في جنة عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين، كما تبرز واضحة كراماتُ الأولياء، أو من يسمون بأهل( الخطوة) !
بينما تأتي لغةُ الرواية مزيجًا بين فصحي التراث، وفصحي العصر، فلم يغفل الكاتبُ الاستئناس بآيات القرآن، والحديث حتي ولو بالمعني، ويرجع ذلك لأثر البيئة، التي نشأ فيها البطل، والتي كان (كُتَّابُ) سيدنا هو المدرسة الأولي، التي تعلم فيها أول حروف الهجاء، ونزلت علي قلبه فيه آياتُ القرآن بردا وسلاما، تُقوم سلوكه، وتأخذ بيده إلي جادة الطريق، وتحولُ بينه وبين (وَحلِ) المعصية، وجاءت فُصحي العصر مُوازية لفصحي التراث؛ ومرجعُها التحاقُ البطل بمدارس التعليم العام، ومن بعدها الجامعة، التي درس فيها الطب، ورطن لسانُه بكلمات أعجمية، والتحم مع سكان القاهرة حيث المدنية و(التفرنج)، وجالس المثقفين والأدباء لشغفه بالأدب، وكلها عواملُ أثْرتْ لغة الكاتب، وشكلتْ قاموسه اللغوي الزاخر .
“نداء الروح” رواية انصهرتْ شخصياتُها المُتعددة، والتي ضمت البطل، وصديق طفولته مختار ابن العمدة، والشيخَ رضوان( شيخ الحضرة)، وابنه خضر، الذي خلفه في (المشيخة)، وجنيدي، ومصطفي، ومن قبلهم أمه، ثم زوجته، لتخلق عملا فنيا زاخرا بالحركة والأحداث، التي تبرزها فصول الرواية السبعة عشر، والتي خضع فيها الكاتب لسلطان الذاكرة، فكانت كتابته للفصول حيثما اتفق، دون أن يرسم لنفسه خطوات واضحة المعالم، والمعني أنه سار خلف سن قلمه في القص والحكي، واقتفي أثر مِداده، ولم يكن أبدا هو الراوي العليم .
هيمنتْ المسحة الصوفية علي روح النص، والتي برزت من خلال (الفلاش باك)، الذي اعتمد عليه الكاتب كثيرا، ليُثبت حقارة الدنيا، وأنها لو كانت تُساوي عند الله جناح بعوضة لما سقي الكافر منها شربة ماء، وهذا ما يبرز في فصل (رحلة إلي الوادي)، حيث لفت الكاتبُ إلي أننا نلهثُ في الحياة بحثا عن السعادة والتي تختلف النظرة إليها من شخص إلي آخر، فيراها البعضُ في النجاح، وآخرون في المال، ويراها صِنفٌ ثالثٌ في (العزوة والعيال)، كما أن الإحساس بها يكون نسبيا، فلا السعيد يظل سعيدا علي الدوام، ولا المهموم يبقي مهموما دائما، إنما الحياةُ ساعة وساعة .
“نداء الروح” عملٌ يُبرز استعار الجانب الفني لدي الكاتب، وتنامي خياله الخصب، وبراعته في رسم الشخصيات، وتسيير الأحداث بلغة قريبة من (قاموس) القارئ، وجاء إخراجُ الكتاب مُعبِرا عن العنوان أبلغ تعبير، فظهرت أشباحٌ تُشبه الأرواح، تبسط أيديها إيذانا باحتضان قادم .
ورغما عن هذا ثمة ملاحظة لا تُقلل أبدا من العمل الفني، تتمثل في احتواء النص علي أخطاء مطبعية تُضعِف من قيمته، وتُزعجُ القارئ، كما أنَّ ورق الرواية من نوع ردئ، وهو ما يجعلها (طبعة شعبية).
” نداء الروح” رواية للطبيب سيد عبد العال حسان .. عن دار حواديت للنشر والتوزيع .