بما أن الحكواتي تأثر بالأحداث رواية “هاني بعل الكنعاني” فالأولى أن يتأثر بها السارد ، فكان هناك إسهاب في السرد بشكل متصل ومتواصل بدأ في فصل “حلم الليلة الثانية” صفحة 80 وانتهى عند حلم الليلة الثالثة في الصفحة 131، وإذا ما توقفنا عند هذا السرد سنجده يتحدث عن إنجازات وانتصارات هاني بعل الكنعاني، وهذا ما يشير إلى أن السارد الرئيس يتأثر بأحداث الرواية، فكان زخم الأحداث التاريخية والسلاسة في تقديمها هو السمة البارزة في هذا الفصل، بحيث لم يجد السارد مبررا لقطع وتيرة السرد ما دامت تمتع المتلقي الذي انسجم وأحب بطله واعجب به، واستمتع بالإنجازات التي حققها ضد العدو.
وكما تأثر السارد بإنجازات وانتصارات هاني بعل، تأثر أيضا بالتراجع والتقهقر: “بعد هذه السهرة المحزنة، بقيت منقبض النفس ومنكمشا على ذاتي، متألما على الحال الذي وصل إليه القائد العظيم…لا أخفي عليكم تأثري النفسي لوضع هاني بعل الخطير في حاجته للتزود من قبل مملكته المُغيِّبة نفسها عن الصراعات الرهيبة التي تحصل في المنطقة” ص132.. اللافت في هذا المقطع أن فكرة الصدمة/التأثر تتماثل مع حجم تقديم المقطع، فنلاحظ أن الفقرة الأخيرة منه جاءت طويلة (أربع وعشرون) كلمة دون فواصل، وهذا يشير إلى تأثر السارد بأحداث الرواية، وتماهيه مع البطل هاني بعل، فكان تأثره ظاهرا في الفكرة وفي الطريقة التي قدمها بها.
عصرنة هاني بعل
ad
العظماء والكبار يظهرون في اللقاءات الصحفية، حيث يقوم صحفيون مختصون بإجراء حوارات معهم، ليبينوا تفاصيل المراحل المفصلية التي مروا بها، هذا الأمر فعله (صبحي فحماوي) من خلال إجراء لقاء صحفي مع بطله هاني بعل.. اللقاء بدأ من صفحة 134 وانتهى في الصفحة 145، واللافت في هذا اللقاء أنه أجاب على العديد من الأسئلة المهمة في مسيرة هاني بعل، وفي الوقت ذاته جدد في شكل الرواية التاريخية، التي عادة ما تأتي على وتيرة واحدة وبشكل تسلسلي متنامي.
في هذا اللقاء تم كشف العديد من الأفكار والأحداث التي مر بها هاني بعل، ولا بأس من التوقف عند بعض ما جاء في هذه المقابلة: “كيف تحملت البرد وشظف العيش كل هذا العمر في معسكرات ليس فيها وسائل الرفاهية، وكيف تستطيع أن تعيش وحدك في أية بلاد تصلها؟
أنه الشعور بمسؤولية حماية الوطن يا أخي صبحي فحماوي، قد يكون قدري هو العيش بهذه الطريقة، ما دمت أقسمت لوالدي أن لا أتخاذل أمام العدو الروماني الذي ينتهك الأرض والعرض.. كان قدري أن أبقى أدافع عن وطني قرطاجنة ليبقى مركز إشعاع للزراعة والصناعة والتجارة التي روحها السلام والمحبة، ولس نهب ممتلكات الآخرين عنوة، إنه محبة بحرنا الكنعاني الذي يوصلنا إلى كل بقاع الدنيا… لا أشعر أن حب الجنس هو السعادة في الحياة، بل إن تحقيق النجاح والنصر والتفوق هو اللذة في الحياة” ص134، إذا ما توقفنا عند إجابة هاني بعل سنجد فيها أكثر من مسألة، منها أنه يعي طبيعة العداء بين وطنه وبين روما، وهذا العداء ناتج عن طبيعة تفكير وسلوك كلٍّ من قرطاج التي تفكر بالتجارة وانتشار الخير بين الأمم، وروما التي تفكر بالهيمنة وسلب الآخرين ما يملكون لتكون هي السيدة على الأمم الأخرى، وأيضا نجد الجانب الأخلاقي والالتزام بخدمة الوطن رغم الكلفة الهائلة التي يدفعها “هاني بعل” وجنوده وما يترتب عليهم من العيش بشكل قاسٍ وشاق، وهناك توضيح إلى المكانة التي وصلت إليها قرطاجنة من خلال تسمية البحر باسمها “البحر الكنعاني”، والذي يعكس حالة التطور التجاري والزراعي والصناعي والأخلاقي الذي وصلوا إليه، بمعنى أن قرطاجنة كانت الدولة الأهم والأكبر في حوض البحر، ولا يوجد لها مثيل أو قرين.
بهذا الشكل استطاع السارد أن يقدم معرفة تاريخية للمتلقي عن طبيعة قرطاج والقرطاجيين وكيف أنهم يتميزون بالإبداع الحضاري ويتسمون بالأخلاق والتمسك بالعهود، ولم يقتصر الأمر على هذا المرور العابر للأخلاق والمبادئ التي يستند عليها هاني بعل وكل قرطاجي، فيسأل بطله: “لم تبلغي عن الحب في حياتك؟:
…إذ لا يجوز في عقيدتنا الكنعانية، التي يقول فيها إلهنا العظيم (أل):
“لا تسرق كي لا تُسرق ممتلكاتك
ولا تكذب، فما يبدأ بالكذب ينتهي بالسوء
ولا تشته امرأة غيرك، كي لا يشتهي غيرك امرأتك
ولا تزن بمحارم الآخرين، كي لا يُزنى بمحارمك
ولا تقتل كي لا ينتشر القتل، فيطال أهلك” ص135و136، وهذا تأكيد على أن الحضارة والثقافة القرطاجية لم تكن تُعنى بالماديات فحسب، بل طالت أيضا الجوانب الاجتماعية/الأخلاقية، فجعلت الأخلاق جزء من العقيدة الدينية، وهذا ما جعلتهم يصلون إلى شمال البحر الفينيقي، مستقطبين العديد من الأمم والأقوام التي تعاملوا معها بصدق وأمانة.
وقبل أن نغادر هذا المقطع ننوه إلى أن الأفكار الدينية القرطاجية تتماثل مع تلك التي دعا إليها المسيح الكنعاني حتى أنها صيغت بعين اللغة التي جاءت في الإنجيل، وهذا تأكيد على أن ثقافة ولغة الخطاب الأخلاقي/الديني عند الفينيقيين لم تخرج عن مسارها، واستمرت محافظة ومتمسكة بسلوكها وفهمها للأخلاق.
أما عن عبوره العظيم لجبال الألب، سأله صبحي فحماوي: “كيف كنتم تدفئون أجسادكم في هذه الجبال القاتلة؟ فأجبني ضاحك:
…ذهلنا بانزلاق بعض المجندين، إذ شاهدناهم يتهاوون ساقطين.. الذي صدمني أمام ذلك الرعب الثلجي أم كثيرا من مقاتلينا قرروا العودة من حيث أتوا، فما كان مني إلا أن استخدمت الحنكة معهم، إذ أرسلت إليهم عددا من حلفائي قادة عشائر الكلتيين، فراحوا يشجعونهم قائلين أنهم اعتادوا عبور هذه المرتفعات بأمان، وأن لا خوف عليهم من مواصلة السير نحو الهدف، بينما رحت ألسع جماعتي بسياط من الألسنة الحادة، قائلا لهم:
أنتم تعرفون أن الرومان ينتظرونكم أينما وجدوكم، فهل يعقل أنهم سيتركونكم تعودون سالمين إلى أهاليكم لو عرفوا أنكم هاربون من القتال؟ أنتم تعرفون أن أزواجكم وأبناءكم ينتظرون عودتكم، فبأي حال ستعودون إليهم هاربين من عدو لم تراقوه بعد … ثم أنكم قطعتم مسافة سبعة آلاف وأربعمائة فرسخ من أيبيريا حتى قمم الألب، وها أنتم تناطحون السماء برؤوسكم ولم يبقى أمامكم سوى مسافات قصيرة… فواصلوا السير لتصلوا إلى أنهار الرومان وسهولها الخصبة” ص141و142، تناول هاني بعل مشاق الرحلة تأكيد على أنه قام وجنوده بعمل لم يقدم عليه أحدا من قبله ولا حتى من بعده، وهذا العبور بحد ذاته يعتبر أهم إنجاز حربي حققه القرطاجي، وهو إشارة إلى أن هناك إصرار على العبور من طرق ومسالك لم يعبروا أحدا من قبل، وهذا ما يوضح ـ بطريق غير مباشرة ـ كيف استطاع الفينيقي أن يصل إلى العديد من الأماكن والمناطق البعيدة، حتى يقال أنهم وصلوا إلى أمريكا، حيث وجدت صخرة نقش عليها بالفينيقية “حتى هذا المكان وصلناه” وما يسند هذا الوصول شكل الاهرامات في حضارة المايا التي تتماثل مع شكل الزقورة، فهناك مدرج يوصل إلى غرفة الكاهن/العبادة، وهذا الشكل قريب ويتماثل مع شكل المعابد التي أقيمت في منطقتنا.
كما نجد حرص هاني بعل على الجوانب الأخلاقية إلى جانب النواحي المادية، فعندما أرسل للعشائر أراد أن يعطي جنوده دفعة من المعنويات (الخارجية)، خاصة بعد أن ذكرهم بأن الرومان لن يتركوهم يعودون بسلام، ونلاحظ أن هناك استعانة بالطريقة الأخلاقية التي يفكر بها القرطاجي، فذكرهم بالذل الذي سيصيبهم عندما يلاقوا زواجاتهم وأباءهم دون أن يقاتلوا ويواجهوا عدوهم، وهذا ما يؤكد على أن الثقافة الفينيقية لم تكن تُعنى بالماديات فحسب بل جعلت الروحانيات الخط الثاني الموازي للسلوك الفينيقي.
وإذا ما توقفنا عند فكرة التقدم إلى الأمام لمواجهة العدو نجدها تتماثل مع تلك التي قالها طارق بن زياد لجنوده عندما عبروا الأندلس، وهذا ما يجعل العبورين السوريين لقارة الأوروبية يأخذ بعدا حضاريا، فإما أن يعبروا إلينا كغزاة فنكون عبيدا لهم، وأما أن نعبر إليهم كفاتحين فنجعلهم متحضرين.
البعد المعرفي
من المهم أن يكون هناك توازن بين الشكل الأدبي/الجمالي للعمل وبين المعرفة/المضمون الذي يحمله، من هنا نجد السارد لم يهتم بالشكل على حساب الجوهر، بل عمل على تبيان العديد من المفاصل التي مر بها هاني بعل وما قدمه وفعله للحيلولة دون تغول الرومان المتوحشين، وكيف أن تخاذل مجلس شيوخ قرطاج أطاح بأهم دولة كان يمكن لها أن تغيير مسار العالم أجمع، لو أسندت قائدها الذي حاصر روما وكان قريبا جدا من إخضاعها وتعليمها الأخلاق والقيم الحضارية والثقافية الفينيقية.
فسقوط قرطاج كان يمثل سقوط الحضارة العالمة، حيث فقد العالم أهم حضارة عملت على خلق حالة من التفاعل والتزاوج والتشارك بين الأمم، وسادت دولة روما الحربية التي لا تعرف إلا إخضاع الآخرين بالقوة والهيمنة العسكرية.
اعتقد، أن هذه الجوانب يغفل عنها الكثير، لأن هذا الأمر يتعارض ويتناقض مع الفكرة الغربية التي تعمل على تقدم الشرق بصورة متخلفة، وتقدم الغرب بصورة المتفوق، وهنا تكمن أهمية رواية هاني بعل، التي تبين أن الفينيقي كان متفوقا في الأخلاق وفي القيم وفي الزراعة والصناعة وفي التجارة، وعبر البحار فاتحا وليس غازيا، لهذا أنشا العديد من المدن، وتقبلته الشعوب الأخرى ورحبت به لما قدمه لها من منافع مادية وثقافية وأخلاقية.
المجتمع والمكان والزمان
سنحاول التوقف عند أهم المحطات في مسيرة هاني بعل القرطاجي/الفينيقي، ونبدأ من التشكيلة الاجتماعية التي ميزة الفينيقي عن غيره: “…خليط من بلاد البحر الكنعاني القريبة والبعيدة من دون تمييز بين الكنعاني والمصري والآشوري والبابلي والفارسي، ما دام يحتضنهم عالم متداخل بفكره وثقافته وفنونه، وتجدهم يتبادلون تجارتهم الرابحة بكل سعادة وهناء، جاعلين بحرهم بحيرة كنعانية” ص43، هذا ما قاله هاني بعل عن بلاده، فالتعدد والتنوع يعتبره مصدر قوة وميزة تحسب لبلاده وللمجتمع الذي استطاع أن يهضم كل تلك الأجناس ويصهرها بوتقة واحدة، بوتقة الفينيقي/السوري.
نلاحظ أن هاني بعل يستخدم كلمة بحيرة كنعانية، بدل بحر كنعان وهذه إشارة إلى أن المتوسط كان فعلا بحيرة كنعانية (صغيرة)، تمتد من الشرق المتوسط إلى شمال إفريقيا ووصولا إلى جنوب أوروبا: “…وكنت قد شاهدت وفدا قرطاجيا يمخر عباب البحر بسفينة المعبد، ليرسل منحة مالية إلى جهة الشرق.. سألت كاهنهم فقال لي:
أنهم يرسلونها كل عام إلى معابد آلهة آبائهم في صور” ص48، هذا المشهد يعطي المتلقي معرفة بحقيقة ما كنا عليه قبل الميلاد وقبل أن تهمن روما على المنطقة وتسبيح خيراتها، وتستعبد أهلها، فالبحر بحرنا، بحر سورية.
أما عن الزمن الذي وصل فيه الفينيقي إلى سواحل أفريقيا يقول هاني بعل: “…إذ وصلت زعيمتنا الملكة أليسا من صور الكنعانية إلى شمال أفريقيا، فأسست مملكة قرطاج على إحدى شواطئها، فوق ربوة مطلة، وذلك عام 818، أي أننا سبقناهم في الوصول إلى حوض البحر الذي أسميناه بحر كنعان” ص87، نلاحظ أن الوصل إلى شمال أفريقيا واكبه عملية البناء، بناء قرطاج، لتكون نقطة تحول حضاري في حوض المتوسط، وليس بؤرة غزو واحتلال للآخرين، وهذه إحدى ميزات الحضارة الفينيقية.
هاني بعل
الشخصية المركزية في الرواية، والتي كان يمكنها أن تغيير مسار التاريخ في العالم، لولا وجود متخاذلين عملوا على الحد من انطلاقته تحت حجج واهية تخفي حسدهم من إنجازات هذا القائد، ودون أن يعوا طبيعة عدوهم الروماني الذي يتربص بهم ويعمل على محوهم وإزالتهم من الوجود.
تتناول الرواية الجوانب المعرفية والأخلاقية التي تربى عليها هاني بعل الذي تعلم من والده هاملكار أن الرومان هم العدو الأول لهم لوجودهم: “أقسم يا ولدي على أن لا تهادن الرومان، وأن تبقى تقاتلهم، حتى تتغير قادتهم المعتدية على كل من حولها” ص 47، هذه كانت المفصل الأساسي الذي تربى عليه، وكانت استراتيجيته في فهم ما يدور في المنطقة، الرومان أعداء حتى يغيروا نهجهم/ثقافتهم/نظرتهم للآخرين.
وهذه التربية والمعرفة كان لها أسس وجذور على أرض الواقع، فهي لم تكن معرفته خارج الزمن أو الواقع الذي يعيشه: “كان هاني بعل يرى أن قدر قرطاجة هو مقاومة استيلاء روما على مواقع بحر الكنعانيين التجارية ومقاومة الحرب المفروضة عليه، وذلك ليس عداوة لها، وإنما من أجل تحرير الحركة التجارية.. وتشكلت لدية قناعة أن التجارة مع أهالي البلاد المحيطة لا تتم إلا بالسلام والمحبة…وذلك بكسر شوكة روما الطاغية، وتحرير أوروبا والعالم من بطش هذه الطغمة الرومانية التي تمارس توحش السيطرة على الآخرين، وتقدم على نهب أموالهم” ص60و61، فالصراع بين روما وقرطاج كان صراعا حضاريا قبل أن يكون صراعا حربيا، وما الحرب التي لجأ إليها هاني بعل مكرها، إلا وسيلة لتغيير روما الغازية والناهبة للآخرين، وتحويلها إلى روما محبة ومتعاونة.
من هنا كانت رسالة هاني بعل إلى لقادة روما تتمثل في: “..أيردكم أن تخضعوا لشعوبكم وليس لي، سأعين على إيطاليا كلها قائدا من بلادكم، يعلم الناس الزراعة والصناعة والتجارة، بدل الغزو وتحطيم كرامات الشعوب وكيانات الأمم التي تعيشون على غزوها وامتصاص دمائها، ..سأوقف استعبادكم لشعب إيطاليا أولا، قبل نهشكم حيوات الشعوب الأخرى، سأمنح الحرية لشعوب العالم التي ينوي رومان اكتساحها والسيطرة عليها ونهب ثرواتها، واستعباد شعوبها” ص89، لم تكن هذه مجرد شعارات خادعة، بل وجدناها حقيقة فعلها ومارسها هاني بعل مع التجمعات الرومانية التي مر بها أثناء عبوره، فلم يبطش أو يقتل أو ينهب، بل كان يعقد المعاهدات ويرفع ظلم روما: “جئت لأحرركم من بطش مجلس شيوخ روما، ولأعين عليكم مجلسا آخر ترضونه، وليس لنحتل بلادكم” ص121.
بهذه الروح الأخلاقية والحضارية كان هاني بعل، من هنا عامل الأسرى الرومان بطريقة إنسانية حضارية، فلم يقتلهم كما يفعل الرومان بالآخرين، فأراد أن يعلم الرومان كيف يكون المقاتل إنساني حتى مع عدوه: “تتوهمون أنني أقاتل في سبيل إبادة الناس، وهذا ليس صحيحا، لقد قاتلتم كما يقاتل الشرفاء، وإنني في انتظار الحصول على فديتكم، لتنطلقوا أحرارا… ولتعلم شعوبكم أننا مسالمون في حربنا هذه، ولسنا هواة سفك دماء أو سطوة سلطوية” ص 126، توازن القوة العسكرية مع الأخلاق كان عقيدة أساسية وراسخة عند هاني بعل، وهذا ما ميزه عن الآخرين الذين إذا ما انتصروا أحرقوا ونهبوا وقتلوا ودمروا.
نهاية هاني بعل كانت مفجعة على اكثر من صعيد، مفجعة له كقائد كان يمكنه أن يوقف خراب العالم، بوقف روما عند غيها، وفجيعة لقرطاج وللفينيقيين الذين أزيلت مملكتهم عن الوجود، وأصبحوا اتباع لروما وخاضعين لقوتها العسكرية، وفاجعة للعالم الذي فقد بعدا حضاريا وثقافيا يدعو ويعمل على نشر السلم العالمي والتعاون بين الأمم والشعوب، يختم هاني بعل نهايته بهذا القول: “الآن ليس لدى روما ما تخشاه، إذن لم يكن في وجه روما المندفعة لاحتلال العالم سوى هاني بعل العظيم” ص166، فكانت نهايته هي نهاية الحضارة العالمة، وانتشار السطو والقهر والبطش الروماني على الأرض.
روما
مقابل أخلاق وبطولات هاني بعل كانت روما على النقيض، تخطط وتعمل على محو وإزالة قرطاج من الوجود نهائيا: “علينا أن ندمر قرطاجنة” ص166، لهذا نقض الرومان عهدهم مع القرطاجيين، حتى بعد أن سلموا سلاحهم للرومان وبعد أن سلموا الجزية الباهظة التي فرضت عليهم، قيل لهم، ليس لكم مكان على البحر، أقيموا مملكتكم في الصحراء، عندها أيقن القرطاجيون أنهم وقعوا في خطأ فادح، عندما رفضوا أن يدعموا قائدهم هاني بعل أثناء حصاره روما، وكان أن حوصرت قرطاج لمدة عامين كاملين، إلى أن تمكن الرومان من دخولها، فقاموا بحرقها واستباحت أهلها، حتى أن النيران استمرت أسبوعين كاملين وهي مشتعلة فيها، عندها قال قائد روما “سيبيو: لن يرحم الله روما على فعلتها” طبعا هذا الكلام لم يزيد في عمر قرطاج ولم يحول دون محوها من الوجود نهائيا وإلى الأبد.
في متن الروية هناك مواقف تعرض لها السارد متعلقة بروما وطريقة تفكير مجلس شيوخها، وكيف تعاملت مع عدوتها قرطاج وقائدها هاني بعل، فبعد أن سقطت قرطاج في أيدهم عملوا: “ومنذ طفولته … ألف له كاتبه اليوناني إميل دونال العديد من الكتب باللغة اليونانية…دخلوا بيت المؤرخ وجمعوا الكتب التي بحوزته وأحرقوها، أو عم في الحقيقة أخفوها عن أعين القراء وعن مريديه.. فيعرف العالم أن لا قادة عظماء سوى قادة روما” ص58، هكذا كانت روما، وما الوحشية التي تعاملوا بها مع الأسرى الذين كانوا يجعلونهم يتقاتلون حتى الموت، إلا أحد أشكل البربرية التي مارستها بحق الآخرين غير الرومان.
يحدثنا هاني بعل عن روما بقوله: “لم يكن لدى هؤلاء القوم قانون ولا نظام، بل كانت العصا الغليظة والسيف هو قانونهم ونظامهم، قاتلين أو مدمرين من يقلونه” ص85، لهذا عمل على تحريرها من هذه العقلية، وكف شرها وأذاها عن الأمم الأخرى، لكن روما كانت تفكر بهذه العقلية: “… هو أننا لا نستطيع العودة عن مواجهة هذا الصبي المغرور إلا بالانتصار عليه، والتخلص منه، وبعد ذلك لكل حادث حديث مع قرطاجنة التي سنخلعها من جذورها، كما نخلع السن ونخلع وجعه” ص109، إذا ما قارنا هذا الطرح مع طريقة تفكير هاني بعل وكيف أراد التعامل مع روما نجد البعد الحضاري لصالح هاني بعل، الذي لم يفكر بإزلت روما، بل تصحيح مسارها ونهجها، وهنا تكمن خسارة العالم للحضارة والثقافة الفينيقية بعد أن دمرها الرومان واستباحوا أمم المنطقة.