القصيدة الذّاكرة.. مقام الغياب رؤيا في “عطش الأنهار”/ عبد الحفيظ بن جلولي
28 ديسمبر 2022، 16:18 مساءً
صعب جدّا أن نكتب وجوها من على شرفة القصيدة. نغيّر من مسار الشّعر ليصير مسلكا لا ذاتيا، لا فردانيا، وليصبح ذلك الكلام على قارعة الغياب والقصائد التي تنقال جماعيا، إنّه “الوعي الجمعي” للموسيقى التي كانها الشّعر وودّعها في مرحلة وصارت إلى نوتات لا تختلف كثيرا عن “الكلمة”، تلك براعة الشّاعر الحزينة حين يكتب أوجه الشّعراء والكتّاب الذين غادروا مسار كينونة الكوكب الجميل.
تتدفّق الحكاية الشّعرية على عنوان “عطش الأنهار” ليعلن عبد الحميد شكيل نثيرته المثلى على عتبات الغياب، يعود إلى “القافية” مستسلما لها ليسمع إيقاع القصيدة مجلجلا في أدغال الصّمت الموحي بالسّراب. يكتب “عطش الأنهار” في زحمة عناوين القصائد الحاملة لهوية الأسماء التي مرّت من هنا، وهناك، على “مدرج العالم” حيث يسكن “الإبداع” مناطق الدّهشة التي يتواصل عندها المسكونين باللغة. زار عبد الحميد شكيل رفقاء “اللغة” ذات المراس الصّعب، الماكثة بين التأويل والرّمز والإشارة، عند تلك التّخوم لفظ أنفاسه المستمرّة على أمواج القصيدة.
ad
1-
ينبني الشّعر على مرافئ أغنية قديمة يؤدّيها البحّار/الشّاعر على أنقاض الماضي، ذاك الذي يتشكل في أعالي الماء كمركبة تكسّرت ألواحها ولم يبق منها سوى لمع الأشياء التي تغري بالاقتراب كشيء من الأشياء التي تفجّر الذّاكرة، وتبعث الكلمات على شفاه البحّار/الشّاعر كبقايا ملوحة لذيذة حين يرتمي الجسد على رمل الوجع الذي كان سريرا لميلاد الأشياء الجميلة، وسحر أجساد لم تعد أشكالا ولا أطيافا تحنو عند اللقاء ومتعة الكلام حين نتبادله ملحا/شعرا.
2-
يتأكّد عياش يحياوي في القصيدة موضوعا للغياب، لا تصل الكلمات إلى عمق الفداحة لكونه رقما ممجّدا على منبر النص، لكنّه “أفقا في استلاب”: (أما زلت في مرصد النص أفقا في استلاب..؟).. الغياب، غياب الذّات حين لا تعثر على ذاتها سوى في (أفق القصيدة)، لكن مسارات الأشياء لا تؤدّي وظائفها الوجودية ولا الإنسانية لأنّ المسافات مكثفة بالخراب: (دفق وجد في شجر الخراب..).
مالك حداد، وورطة القصيدة إذ تهزّ أركان المكان، وتبزغ الزّرقة كثيفة في رؤيا الشّاعر.. لا شيء في المكان سوى “قسنطينة”، بهاء جميلا في وساطة “الكلمات” المفعمات بذوق “العودة” المبجّلة لمالك حدّاد في مدار الزّرقة المقدّسة: (السّماء ليست زرقاء إلا في قسنطينة”. لا أزرق سوى في المكان الذي تُكتب فيه القصيدة أو يشهد ميلاد “الانطباع الأخير”. يرى شكيل مالك حدّاد مسفوحا دمه على مرايا الكتابة والغياب، موقوفا على حرج السّؤال: (كم يلزمنا من الوقت..) لنكون جديرين بعودة الشّاعر؟ مرثية لذات الشّاعر، شكيل يرثي ذاته في صورة الذين عبروا، يسترجعهم من رقدة الهناء المتوسّدة شجو الكتابة التي تشبه زقو العصافير. يعودون، يملأون “ركح الغياب” بعد أن يكون “الحضور”، ربّما، حين (يزهر الملح، في صدوع الصّخر، أو في قيعان الأخدود).
لمرزاق بقطاش في أفق القصيدة هاجس سؤال الجدوى: (فكيف “لطيور الظهيرة” أن تعود للأعشاش؟ !!). يركب شكيل “بحر” مرزاق متأوّلا سردياته معنًى في الشّعر، هل يطاوله “بقطاش” وهو أعلى “الصّمت” المقدّس؟. (لا خطاي تسير إلى خطاي)، سكون ماحق، لا حركة في المسار، دونهما تقف الرّواية والقصيدة وجها لوجه يعلوهما غموض الحكاية إذ تتناول القصيدة الموضوع المهمل على أرصفة الضّياع بمنطق “الحكاية”: (صدّقت الموتى وكذبت القصيدة)، من هناك، من الموت تعود الحكاية. مرزاق بلون الصّمت والبحر يكتب أوجاع “شكيل” الجالس على أريكة المدى، هل نرافق الموت إذ يخطف الإبداع؟ أم نرسم المسار في غموض اللانهائي. يحاول شكيل أن يتهجّى مفاصل الحكاية ليجد شيئا من الفهم المستحيل، فهم القصيدة مستحيل كالموت، نراه في الجسد السّاكن فقط. أمكنة الحكاية لا تهدأ، تعجز اللغة أن تستمر في مشاكسة الموت إلى أن يأتي “البحر” بعلامة الوفاء للبحّارة/الشّعراء الذين عبروا فوق مراكب السّرد: (وكم تهجرني القصيدة..).
3-
يعثر الشّعر في تاريخه على شذرة “نقد” أهملت طريقها فعلقت في الغياب، زرادشت القصيدة عند نتشه الفيلسوف.. أين ترك “المطر” أثرا ليقف شكيل على “حسين خمري”، وجع الطين حين تشتاقه الأزقة ويشتاقه المطر، (كنّا نحب المطر)، المطر ما جمع العائدين من أزمنة النص، الماء، ذلك النّازل من السّماء، الدّافق: (على جسر “سيرتا العتيق”). بين الشّعر والنقد حكاية لا يمكن أن تكتبها الأفكار، إنّها جوقة اللغة، فقط هي القادرة على ترميم شقوق الانفصال حتى تحنو عرصات الفلسفة على وتريات الوجدان: (كنّا نحب المطر/وصخب الفاتنات../ على امتداد الطريق../ لا أنت أوجزت العشق../ ولا هنّ أشعلن نار الوصال..)، هي اللغة، حين تغازل الشّعر، تقترب منه لا بالأفكار ولا بامتدادها داخل أقبية العقل. إنّه الشّعر، امتداد الوجد على مسافات الفكر: (مرّت اللغة، بيننا صامتة..)، وأي صمت أبلغ من سكون الجسد وهو يستسلم لأناقة الموت متوسّدا جمال اللحظة: (على فرس القرنفل،/دون عناء..). سافر الشّاعر والناقد إلى مساءات اللغة وفضاءات “سيرتا” كي يستوي الامتداد على جسد “الصّمت” ويعود النّاقد إلى سماء “المطر”.
4-
في وهران تحطّ القصيدة ويتكلم الشّاعر بنبرة عائدة من أقاصي “آشور” لتلتقي “سانتا كروز” حيث تقيم “أم سهام” التي غادرت إلى حيث النص يقيم في أعراس الموت: (لا لغة الدّراويش انتبهت لحزمة الرقص..). حينما تضلّ اللغة طريقها إلى المعنى يشتبك الشّاعر مع مرويات النص/السّرد، يربك ظلالها كيما تعود التي تاهت إلى شكلها ورسمها: (إلى معنى اليقين !!..) فيما عناه الشّاعر حيث صمت الأماكن: (ولا وهران باحت بسرّها لفلول الغجر). هل بادرت أم سهام “وهران” بالكلام أم كان بينهما سرّ الصّمت الذي بين المبدع والقارئ، “الصّمت” الذي أتعب الشّاعر فلم يقل قصيدته إلا على مشارف الرّمز المنهِك لأفق القارئ المنشغل بالتأويل.
في “مدرج” الفكر يضع شكيل مجسّاته النّاهضة بأسرار البلاغة، يهزّ “محمد أركون” في غربته التي نأت بالجسد وبالعقل: (لم تكن العصافير.. /مهيّئة لاستقبال الضّوء). تنبجس الغربة من أضلاع كتابات أركون، فتتلبّسه حيّا/ميّتا إذ مالت اللغة نحو ظل الغمامة في بطحاء الفكر: (لم تكن لغتي../ واضحة في عين السّجان..). لماذا نرفض اللغة حين تسيّجها أسرار المقام؟ (نزلتِ القيثارة../ من محفل الأسحار)، تلك لغة تشتمل على مراسيم العزف حين تغيب الموسيقى بين فراغات الأوتار، (مرّت إلى نوبة النهوند،/مكتظة بعويل الّمضاء..)، لا مرسم للغة خارج فصول الفراغ، الصّحراء تجد مرجعها في شوق “أركون” للتّحليق في سماء المعنى إذ تغتسل اللغة بماء السؤال، بين الموسيقى واللغة يسكن الشّعر صحراء الدّلالة والمعنى، التّيه والسّكون والصّدى المكثف بالرّوع، جميعها موازين لترتيب مقام اللغة حين يعترف الفيلسوف/الشّاعر: (واحتوتني فيوضات الأسرار).