أين اختفى نحاسنا؟/ الصديق الحسن
كانت أواني النحاس منتشرة في دورنا ودور جيراننا وأقاربنا عندما كنا أطفالا. طناجر ضخمة، أواني الشاي، صواني، مبخرات، مراجل، مواعين لكل الأغراض والمناسبات… كانت ثقيلة متطلبة لعناية مستمرة وتنظيفها صعب وتتأكسد إن تركت للرطوبة فتعلوها طبقة زرقاء عنيدة. وكانت النساء تخصّصن أيامًا لتنظيف أواني النحاس والفضة، عادة قبل الأعياد ورمضان والمناسبات، عملية مضنية باستخدام ليفة من المعدن يسمونها الحلفة ويتعاون في ذلك كل من له القدرة على الحك دون انقطاع حتى الأطفال الذين يتحمسون في البداية ثم سرعان ما يملون فينسحبون. في المغرب يسمون العملية “مَري النحاس” ربما لأنه يصبح بعد الانتهاء صقيلا كالمرآة. لهذه التعقيدات تخصلت ربّات البيوت تدريجيًا من ذخيرتهن من النحاس في صمت بعد انتشار أواني الألمنيوم الإينوكس الخفيفة الوزن الرخيصة السعر والسهلة التنظيف. فأفقنا وقد اختفى النحاس من منازلنا دون أن يحدث ضجة إعلامية.صحيح يقول الناس “الله يعطينا شي ذهب يغبر فيه نحاسنا” لكن ليس المقصود صينية النحاس، بل أناسًا أرفع منا منزلة إلى درجة أن تغلب فضائلهم على نقائصنا. شيء من هذا القبيل.ثم جاء جيل لم ير أواني النحاس تستخدم في المنازل للأعمال الشاقة بل انتبه لاهتمام السياح الأوروبيين بها ليس للاستخدام بل كقطع أركيولوجية وتحف للزينة والديكور.عودة اهتمامنا بنحاسنا ليس من باب قيمته الوظيفية التي بدّدناها بأيدينا ولكن كأثاث للديكور، وصار من بيننا محترفو تصميم وهواة يجوبون القرى النائية كالأوروبيين ويطرقون المنازل بحثا عن قطعة خردة من نحاس يشترونها بسعر مرتفع أو يستغفلون صاحبتها التي لا تفهم ماذا جرى لعقول الناس…والأمر نفسه ينسحب على أبواب المنازل القديمة (كانت تُسمى في مراكش دفة الخوخة) التي صارت صيدًا ثمينًا في الجبال بعد أن انقرضت في المدن جراء حملات البحث بالريق الناشف، لتوضع في صالون عصري أو بهو فندق أو في موضع لوحة بصدر مطعم، لا لتنفتح على بيت بل ليكتفي الناظر بالتطلع إليها بإعجاب كشئ أغلق إلى الأبد. وكذلك شأن مرايات الجدات المحاطة بأطر الفضة المنقوشة وصناديق خشب العرعار المزوقة، ومشط العظم الذي كان مثار سخرية فأصبح من أثمن الأشياء، وسطل الحمام الخشبي الذي اختفى منذ السبعينيات، وطبق الخبز من الخوص المجدول (الطبيگة) وووو ماشئت من الأدوات التي بدّدنا قيمتها الوظيفية والجمالية بكل سفاهة وطمرناها دون رحمة والآن نحاول تذكر أين حفرنا قبورها بعد أن اهتم بها الزوار. لأن اهتمامهم يعني لنا الشئ الكثير.غرائبية مضاعفة أو منعكسة ألا يحلو لك شئ إلا إن حلا في أعين السياح، فتختار دور الغريب في حيه أو السّائح في بلده.