وهم ”الحور“ في الجنة! / محمد رياض العشيري
من صفات النبي الكريم الجديدة – المؤكدة على بشريته – التي وردت في السورة الثامنة والثلاثين (صاد)، ولم ترد من قبل، نفي علمه بالغيب. فهو عليه السلام لا يعرف ماذا دار عند بدء الخلق من حوار بين الله تعالى والملائكة، وبين الله وإبليس، لكنه أُبلغ به فبلّغه لقومه.
وهو لا يعرف ماذا يدور من تحاور بين أهل النار، لكنه أُبلغ به فبلّغه. وتحسم الآيات ذلك في السورة ذاتها قائلة (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون)، (إن يوحى إلي إلا أنما نذير مبين). فالصورة التي ترسمها السورة هنا لمحمد عليه السلام أنه بشر، يُوحى إليه، وما يُبلغ به قومه، ليس إلا ما يأتيه به الوحي، وهو ليس إلا منذرا لقومه. وتأتي هذه الأوصاف لترد على ما كان ينعته به قومه، من أنه (ساحر كذاب) مما يورده القرآن الكريم في السورة كما هو، ودون أي حكم مسيء أو مشين لهم. بقيت كلمة أخيرة عن وصف الجنة ومن فيها وما فيها من نعيم، ووصف النار ومن فيها وما فيها من عذاب. إذ إننا لو تدبرنا آي القرآن الكريم تدبرنا دقيقا، لأدركنا أن جميع أوصاف الجنة ونعيمها يتعلق بالمكان وما فيه من بساتين وأنهار وعيون، وما سينعم فيه أهلها من أرائك، وما يلبسونه من ملابس من زخرف وإستبرق، ثم ما فيها من طعام وشراب، من خمر ولبن وعسل، وفواكه، ولحم طير.
وكذلك وصف النار وعذابها، يتعلق بالمكان وما فيه من درجات من العذاب، وما يلبسه أهلها فيها من سراويل من قطران، ثم ما يأكلون فيها من ضريع (طعام خبث منتن)، أو غسلين (صديد)، وما يشربون فيها من حميم (ماء حار) وغساق (صديد). أما الفكرة السائدة التي يتعلق بها كثير من الناس من محبي الشهوات، من إشباع للجنس وما يصورنه بشأن ”الحور“ من أوصاف، فلا أظنه يتماشى مع صفات نعيم الجنة كما وصفها القرآن الكريم.
وإنما هي جميعا – في رأيي – صفات للفواكه الموجودة في الجنة والتي أفاض الكتاب الكريم في أوصافها. ثم إن وصف الله تعالى لما في الجنة يصحبه عادة تعبير ”الرزق“، والرزق في القرآن الكريم يتعلق – بحسب فهمي – بالشراب والطعام والأموال (كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا). ويتعلق أيضا بالإنفاق. وفي سورة (صاد) يقول تعالى عقب وصف نعيم الجنة (إن هذا لرزقنا ما له من نفاد). ولم يرد استخدام تعبير الرزق في الكتاب الكريم مقترنا بالمرأة، أو النساء، بحسب علمي. ثم أليس غريبا أن يصف الله تعالى الشهداء – وهم من يتوهم المتوهمون أنهم أول من يحظى بهذه ”الحور“ عقب الشهادة، وأنهم سيقابلون أول ما يقابلون بهن – فلا نجد في الوصف أي ذكر لهؤلاء ”الحور“؟ بل يقول الله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون). ولا يقولن أحد إن من بين الرزق النساء، سواء أكن حورا أم لا. آمل ألا نرفض ما أُبدي هنا من رأي واجتهاد، قبل أن نراجع في أناة وروية وعقل منفتح آيات الجنة في القرآن الكريم، وأن نعمل عقولنا في فهمها بما يتوائم ومبدأ القرآن في العدل بين الرجل والمرأة، وطبيعة الجنة – الموصوفة في الكتاب الكريم – وطبيعة من يعيش فيها.
ولنا في الفترة التي عاشها آدم عليه السلام وحواء فيها عبرة، قبل أن يهبطا منها وينجبا أولادهما. الأحد ١٨ رمضان ٢٠١٥ وهم ”الحور“ مرة أخرى علق الصديق العزيز عدنان الشريف على يومية السبت ١٧ رمضان التي تناولت فيها سورة (صاد) متحدثا عن نعيم المتقين في الجنة. وأشار إلى الآية الكريمة (مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ ۖ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ). وتعميما للفائدة رأيت أن أضع تعليقي في يومية الأحد. الآية التي ذكرها جاءت في السياق التالي، وأنا أذكره هنا لأَنِّي لا أحب اقتطاع الآية عن سياقها لأن هذا يؤدي إلي كثير من الخلط وسوء الفهم. (إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم. كلوا واشربوا هنيئا بما كُنتُم تعملون. متكئين على سرور مصفوفة، وزوجناهم بحور عين. والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين. وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) سورة الطور ١٧-٢٢. كما ورد التعبير نفسه في سورة الدخان (إن المتقين في مقام أمين. في جنات وعيون. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين. كذلك وزوجناهم بحور عين. يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) ٥١-٥٥. واضح من الآيات في السورتين سياق الأكل والشراب الذي ينعم به المتقون. في سورة الطور سبقت آية (وزوجناهم بحور عين) بـ(كلوا واشربوا)، ثم أتبعت بأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون. وفي سورة الدخان سبقت بالحديث عن الملبس، ثم أتبعت بـ(يدعون فيها بكل فاكهة آمنين). ونحن هنا بحاجة إلى فهم معنى حور عين، ومعني زوجناهم، بحسب الاستخدام القرآني، لأن الدلالة اللغوية وحدها – أي البحث في معاجم اللغة عن المعنى – قد تكون غير كافية، والأولى الاستخدام القرآني. ويجب أيضا عند تفسير القرآن عدم إغفال المبادئ العامة التي يلتزم بها القرآن ذاته، ومنها هنا مبدأ عدل الله تعالى بين الرجل والمرأة. وفي ضوء ذلك، وفي ضوء السياق الذي شرحته، نفهم أن الحور معناها الفاكهة التي تعود كما كانت بعد قطفها، من فعل “يحور” أي يعود، (إنه ظن ألن يحور) أي ظن أن العذاب لن يعود ويرجع. وهذا المعنى تسانده آيات أخرى، (فاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة)، و(كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها). وهذه الفواكه المتجددة متاحة للرجال والنساء على السواء، (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم). أما العين فهي كالعين التي تسيل دائما بلا انقطاع لتجددها (اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا)، و(ترى أعينهم تفيض من الدمع).
أما زوجناهم، فتعني جعلناهم معها مقترنين، متلازمين، فأينما حلوا وجدوا تلك الفواكه. وهذا الفهم – في رأيي وإن خالف المألوف في كتب التفسير – يتماشى مع عدل الله تعالى بين الرجل والمرأة، ويتماشى مع سياق الآيات التي تدور على الجنة وما فيها من نعيم يتركز على الطعام والشراب، واللباس، وليس للجنس فيه ذكر. كما أنه يتماشى مع استخدامات القرآن الكريم للمفردات، وليس الاستخدام المعجمي الذي نقحمه أحيانا على النص القرآني. وفي نهاية المطاف هذا اجتهاد، لأي شخص رفضه أو قبوله، ولكن ليس من حق أحد أبدا أن يغلق على عقولنا فلا نُعملها فيما نقرأ، لنظل أسارى كتب القدماء التي كتبها بشر مثلنا تأثروا ببيئاتهم وعصورهم.