نظرة في “طلعة” “اغلانه”/ باته بنت البراء
“اغْلَانَه لَـيْنْ اتْصِيـبْ
@ لِلْمَجْـلِـسْ، شِي غَرِيبْ:
مَجْلِسْنَ لَاهِي إِطِيبْ @
وِانْـتَـمُّـو فِـيهْ اتْـفَـاگْ
آنَ نَشْـرَحْ لٍعْطِيبْ
ؤُهِــيَّ تَـشْرَحْ لَخْلَاگْ”
لا أعرف كيف أقارب هذا الإيجاز الإبداعي ممثلا في “الطلعة” الرشيقة السابقة؛ بمفرداتها وتراكيبها وإيقاعاتها الراقصة، ولذلك أريد من القراء مساعدتي في هذه القراءة.
قدم الشاعر صورة موجزة لشأن حدث ذات مرة ويتأتى أن يحدُث، لو واتََـتْ الظروف، وساعد الوقت، وهو ما ترجمه التركيب الشرطي: (لين اتصيب)، ففراغ المعنية من شؤونها شرط أساسي لوجود اللحظة المقتنصة.
“اغْلَانَه” كانت محور النص؛ فبها ابْتِدِئَ وإليها يؤول، اختار لها الشاعر تلك التسمية المشتقة من الفعل: غلا يغلو غلوا، أي زاد وارتفع وجاوز الحد، وخصها بصيغة التفضيل من الفعل لتصبح الأعلى مكانة والأشد أثرة في النفس من عموم الناس:
أغلانه)، وأرى أن التسمية محض اختيار من الشاعر، فمن عادة شعرائنا (لِمْغَنْيينْ) غالبا التكتم على اسم المحبوبة، ولذا شاعت في لغن مسميات كثيرة للمرأة: (الـرِّيمْ – سِبِّـتْ لِكْـتِيلْ- سِـبِّـتْ لِحْزِيـمْ- سِبِّـتْ لَوْجَادْ – طَبْ التُّولَاهْ – طَبْ اللَّيْعَاتْ – طَـبْ الْهَـانَه- مَـتَّانِتْ لِحْزيمْ – إلْ مِنْهَا مَمْكُونْ – أَغْلانَه- الْعَـرَّادْ – إلخ)
وكثرة الأسماء كما يُؤثر عن العرب دليل على شرف المسمى، وحضوره في الذهن، فالشعراء اختاروا العدول عن ذكر الاسم العلم للحبيبة ووضعوا له بدائل؛ تكتما على حيثيات العلاقة ونَـأَْيًـا بالمرأة عن الأراجيف، وصونًـا وغيرة على الشرف، وحفاظا على استمرار حبل الود.
والشاعر يتحدث عن لحظة صفاء حدثت ذات مرة، ويأمل أن تتجدد إذا توفرت الظروفُ وواتَتْ الفرصة، لقد ربط تلك اللحظة المنشودة بفراغ “اغلانه” من شؤون تشغلها، ولم يحدد لنا طبيعة تلك الشؤون، بل ترك للمتلقي التكهن باحتمالات الانشغال: فقد تكون المعنية ربة بيت وذات عيال طلقها الزوج وترك لها أمر البيت والأطفال؛ وهو ما يحدث كثيرا في مجتمعنا، فتصبح الأم الفتية مسؤولة عن أسرة وهي ما تزال في ريعان الشباب، وعليها أن تكد وتعمل لتربي الأطفال وتلبي حاجاتهم الكثيرة، مع أن أعين الرجال ما تزال تلاحقها.
وهي لا ترى حرجا في أن يجدون فيها بقية من ويتسرب الزمن بين يديها وهي في كد وجهد، ولن تتذكر أن بها بقية من شباب وأن أعين الرجال ما تزال تتابعها، وقد تكون اغلانه طالبة جمعتها بالشاعر قاعات الدرس وأوقات المذاكرة للامتحانات، فإذا انتهت يتسنى للشاعر ولها أن يسرقا لحظة زمنية يسترجعان فيها الأحداث، ويعلقان على مسلكيات الأساتذة، والحديثُ ذو شجون.
كما قد تكون هي الابنة المسؤولة عن أمور أسرتها، فقلما تجد الوقت لتلاقي الفتى المتحين للقاء في أحد زوايا الشارع، أو عند إحدى الصديقات.
كلها احتمالات واردة لتحديد طبيعة انشغال “اغلانه”، غير أن ما يخفف من هذا الانتظار هو ما يحدث عند اللقاء، فحين تنتهي المشاغل، يحدث العجيب الغريب كما يقول الشاعر:
اغْلَانَه لَـيْـــنْ اتْصِيـــبْ
لِلْمَجْـلِـسْ، شِي غَرِيـــبْ:
مَجْلِسْنَ لَاهِي إِطِيبْ
وِانْـتَـمُّـو فِـيــــهْ اتْـفَـاگْ
والغريب دائما يكون خارقا وغير مألوف ومُبهرا في ذات الوقت وذات السياق، فما يحدث حين اللقاء يصور لحظات الانسجام الكامل بين الاثنين، مع عفة في القول ونظافة في الفعل: فالشاعر يجد الوقت ليبوح بمواجده، ويشرح معاناته، وأغلانه لا تبخل عليه بالإنصات وتبادله النظرات في طمأنينة ودعة تشرح الصدر وتستثير الشعر:
آنَ نَشْـرَحْ لٍعْطِيبْ
ؤُهِــيَّ تَـشْرَحْ لَخْلَاگْ