بين قائمة سوداء واخرى رمادية.. تونس في مواجهة المجهول.. ولكن القتامة ليست مصيرنا.. اليوم استجواب محافظ البنك المركزي امام نواب الشعب.
من الصعب توقع ما سيكون عليه السيناريو في مجلس نواب الشعب اليوم الخميس عندما يقف الشاذلي العياري محافظ البنك المركزي في مواجهة مصيره امام نواب الشعب بعد ان رفض دعوة رئيس الحكومة الى الاستقالة مخيرا المواجهة ..و قد يكون الشاذلي العياري الذي خلف مصطفى كمال النابلي في موقعه في عهد الترويكا راهن على دعم نواب النهضة لبقاءه في منصبه بعد تواتر تصريحات قيادات في الحركة رافضة لاقالة المحافظ …و لكن و في انتظار المشهد الذي يتطلع اليه التونسيون تحت قبة البرلمان فان الارجح ان الساعات القادمة ستكون ساخنة في الاحداث رغم موجة البرد الشديد الذي تشهده تونس هذه الايام و التي تعرف في الموروث الشعبي بقرة العنزة و هي فترة البرد الشديد التي تسبق نهاية فصل الشتاء …و بالعودة الى قصر باردو و الموعد سيتابعه التونسيون في انتظار أن تتضح الرؤية و يزول الغموض بشأن اقالة محافظ البنك المركزي و ما اذا سيكون الامر تكرارا لسيناريو اقالة رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد الذي اصر على الاستقالة امام البرامان فخرج بدعم ثلاثة نواب من بين 217 و انسحب في مشهد مهين رغم الجهود التي بذلها في عديد القضايا المعقدة ..
و بالعودة الى خياراقالة الشاذلي العياري و بعيدا عن استباق الاحداث و محاكمة النوايا و الانسياق الى البحث عن ضحايا لتحميلهم مسؤولية الازمات الاقتصادية و الاجتماعية المتتالية في البلاد فان الحقيقة أن خلف الاحالة أمام مجلس نواب الشعب فان المشهد لا يخلو من سريالية غريبة .و الامر هنا لا يتوقف عند مسؤولية محافظ البنك المركزي من عدمها و لكن الامر يتعلق بتعقيدات المرحلة ..
و خلال شهرين تلقت تونس صفعتين مدويتين من الاتحاد الاوروبي حيث تم تصنيف تونس في مرحلة اولى ضمن القائمة السوداء للملاذات الضريبية قبل أن تتحرك خيوط الديبلوماسية لاصلاح ما فسد ..و لكن الاخطر انه و ما ان خرجت تونس من القائمة السوداء للملاذات الضريبة الى القائمة الرمادية حتى اعلن في سترازبورغ عن تصنيف تونس من البرلمان الاوروبي في قائمة الدول الاكثر عرضة لتبييض الاموال و تمويل الارهاب والتي كانت صفعة أشد مما سبق .
على أنه ما يجب الانتباه له و في خضم الاصوات التي انبرت تستنكر هذا التصنيف و تندد بالمؤامرة التي تحاك ضد تونس الانتباه الى حقيقة مهمة و انه مهما كان حجم المؤامرة الاوروبية او غيرها سواء كان ذلك بسبب موقف تونس من القضية الفلسطينية و رفضها قرار ترامب او بسبب رفضها الاستجابة عرض الحلف الاطلسي اقامة مركز تدريب في بلادنا فان كل ذلك لا يمكن ان يحول الانظارعن خطورة التراجع و الانهيار الاقتصادي و الجمود الذي تعيش على وقعه البلاد مع ارتفاع التضخم و انهيار الدينار بشكل غير مسبوق منذ ثمانينات القرن الماضي …كل ذلك طبعا الى جانب تراجع الاستثمارات و تفاقم حجم التداين الذي بات يخصص لصرف الاجور و ليس لخلق مواطن الشغل ..والحقيقة ان في انتشار مشاعر الاحباط بين التونسيين جراء اداء و صراعات النخبة السياسية و سيطرة عقلية الغنيمة عليها وانتشار الفساد و المحسوبية ما ساهم بشكل خطير في تخلي التونسي عن قيم طالما كانت عزيزة عليه و هي قيم العمل والانضباط واحتراف الشكوى بدلا من ذلك ..
الصورة القادمة من تونس و برغم القتامة المحيطة بها فان الاقلاع لا يزال ممكن و هزم الهزيمة خيار لا بديل عنه اذا توفرت الارضية و استفاقت حكومة يوسف الشاهد في تحديد البدائل المتبقية أمامها لاخراج البلاد من افلاس وشيك …
-اشارات لا يمكن تجاهلها ..
قبل اسبوعين استقبلت تونس الرئيس الفرنسي الشاب ايمانويل ماكرون و زوجته في زيارة دولة بنى عليها السياسيون الكثير من الحسابات و تجاهلوا في غمرة الاستقبالات ان فرنسا رغم انها الشريك الاول لتونس فانها لن تحمل عنه مشاكله ولن تحل ازمات تونس التي تتضخم يوما بعد يوم .و الامر ينسحب على كل الشركاء الاوروبيين وغيرهم .فقد أثبتت التجارب أن الامم الناجحة هي الامم التي تتحمل تغيير وضعها بايديها و لا تعيش على وقع انتظار المساعدات الخارجية فحسب ..
و الحقيقة انه كان علينا الانتباه خلال تلك الزيارة أهمية أن نعلم الاجيال المتعاقبة كيف تحيا تونس عزيزة أبية مرفوعة الرأس شامخة أبد الدهر. “تحيا تونس” لا يمكن ان يظل مجرد شعار نتغنى ونتفاخربه ونحن نغرق في الاحباط والتردي والانهيار, وتونس لا تحيا بالامنيات والوعود والخطب .وقد ان الاوان أن نمنح هذا الشعار ما يستحق فعلا لا قولا وأن ندرب الاجيال المتعاقبة كيف تحيا تونس وكيف يمكن أن تستعيد مكانتها عربيا ومغاربيا وافريقيا ومتوسطيا وأن تكون منارة علمية حداثية متطورة ومنبعا للامل والطموح والحياة يتنافس فيها ابناؤها على الافضل وليس العكس …
نقول ذلك و قد تابعنا ما رافق زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى بلادنا من نداءات وصرخات استغاثة بالرئيس الفرنسي خلال جولته في المدينة العتيقة للحصول على التأشيرة أوغيرها من المساعدات , أصوات لنساء و رجال و شباب يصرخون “تحيا فرنسا “..ولا نخال أننا كنا سنسمعها لو وجدت لها اذان تصغي لماسيها ومعاناتها .و لاشك أنه مهما كانت أهمية المساعدات و القروض الفرنسية في اعادة دفع عجلة التنمية في البلاد فان ثقافة الاستجداء من مستعمر الامس الذي طالب اجدادنا و ابناؤنا بطرده و قدموا لذلك التضحيات الجسام لا يمكن أن تثمر طويلا …
..ولعل الحالمين بالعصا السحرية للرئيس الفرنسي والمعولين على مغارة علي بابا التي سيفتحها الرئيس ماكرون ليغدق بها على تونس قد انتبهوا الان الى أنه لا شيئ تغيرفي البلاد , والى أن قائمة التحديات والازمات التي تنتظر الجميع لم تتراجع بعد الخطاب الحماسي والمثير للضيف الفرنسي تحت قبة البرلمان ..
لسنا نقلل من أهمية هذه الزيارة في تعزيزالعلاقات التاريخية والمميزة بين تونس وفرنسا ودفعها الى تجاوز حدود الاطارالكلاسيكي الى مرتبة الشراكة الاستيراتيجية الحقيقية , ولاشك أن الزيارة كانت ناجحة تنظيميا ودعائيا في الترويج لصورة تونس التي باتت تحمل عبئ الامانة الثقيلة في انجاح حلم التجربة الديموقراطية الناشئة وتحويلها الى واقع يكذب تلك القناعات بأن العرب والديموقراطية خطان لا يلتقيان.ولكن وجب الاعتراف أنه وبقطع النظرعن حصيلة الزيارة وما رافقها من اتفاقيات اواستثمارات اوقروض اومساعدات فان الاهم ليس في لغة الارقام ..و الاكيد أن الاهم من كل ذلك صورة تونس ومصداقيتها وسيادتها ومكانتها…فلا شيئ يصنع تاريخ الامم وامجادها غيرعقول ابنائها وسواعد وهمة شعوبها و حرصها على تغييرواقعها ..
طوال خمس واربعين دقيقة تحدث الرئيس الفرنسي ماكرون عن تونس الماضي والحاضرولكن ايضا عن تونس المستقبل تونس العائدة الى المشهد, وقد بدا في حديثه مطلعا على أدق تفاصيل الوضع في البلاد وهذا مرده بالتأكيد مرتبط بجولات السفيرالفرنسي بوافر دارفورالذي لا يغيب عن حدث أومكان والذي فرض تقاليد ديبلوماسية جديدة قد لا تعجب الكثيرين ولكنها جعلت له عينا على كل ما يحدث في البلاد …
المصيبة أنه ما ان غادرنا ماكرون و انتهى صخب الاحتفالات حتى طلع علينا البرلمان الاوروبي في سترازبورغ بتصنيف تونس مجددا في القائمة السوداء لتبييض الاموال و تمويل الارهاب والتي يكفي الانتباه لعنوان القائمة حتى ننتبه لتداعيات ذلك على صورة البلاد في الاسواق الاجنبية و في حسابات و نوايا المستثمرين ..فمن يتحمل مسؤولية هذا الوضع المعقد و كيف يمكن الخروج من عنق الزجاجة ؟
-“تونس ليكس″TUNISLEAKS…
في أول ايام السنة الجديدة طلع علينا رئيس الحكومة مبشرا بأن الصعوبات باتت وراءنا و أن سنة 2018 سنة واعدة بالامال بعد انقضاء سبع عجاف..و كددنا نصدق و ننساق مجددا الى الاوهام قبل أن نصطدم مجددا بالواقع, واقع ما انفك يحاصرنا و يجرنا الى الخلف والامر لا يتعلق طبعا بالصعوبات الاقتصادية و الاجتماعية المتفاقمة و التي لا يمكن الا لكاذب أن يدعي امتلاكه العصا السحرية لاقتلاعها ولكن الامر يتعلق بتكرر الاخطاء و تفاقم العثرات والخيبات والانتكاسات التي من شأنها أن تكرس القناعة بأننا ازاء حكومة اما أنها غير قادرة على قراءة المشهد و تحدياته واما انها عاجزة عن تقديم البدائل أوالاثنين معا..
ولو اننا توقفنا عند احداث الاسبوع المنقضي لوجدنا أننا ازاء مشهد يصح وصفه بتونس ليكس Tunisleaks اسوة ب”ويكيليكس″و” بنما ليكس ” وغيرها من مسلسل الفضائح السياسية والمالية .
شهران فصلا بين تصنيف تونس في القائمة السوداء للملاذات الضريبية وبين تصنيفها في قائمة مماتثلة للدول الاكثرعرضة لتبييض الاموال و تمويل الارهاب ..وبين التصنيف الاول القادم من بروكسيل و الثاني القادم من سترزبورغ , فان الامر لم يكن مفاجئابل ان تقارير عديدة تحدثت عن هذا التقييم و لكن يبدو أن الاطراف المعنية استهانت بالامر أو أنها تهاونت في قراءة التقارير ولم تلتزم بالمواعيد ولا بالاستجابة الى تحقيق الشروط المطلوبة لتجنب الوقوع في الخطئ وحدث بالتالي ما لم يكن في الحسبان ..والنتيجة أن صورة تونس و ديبلوماسيتها تتلقى الصفعات تباعا من ممثليها و مسؤوليها والساهرين على ديبلوماسيتها الاستباقية قبل اي طرف اخر ..
الحدث الثاني والذي اهتز له التونسيون فيتمثل في موت تلميذتين حرقا في مبيت لمدرسة تحمل شعارعيد الجمهورية 25 جويلية , مشهد لا يمكن لتونس التي راهنت على التعليم سلاحا من اجل المستقبل ان ترضى به ..و قد تكررت الحوادث ثلاث مرات متتالية في اسبوع ولا نخال الامرمجرد صدفة ..ولاشك ان في غياب الحقائق ما يضاعف المخاوف ذلك أن انعدام ثقافة المحاسبة والمسائلة أمرلا يساعد على تجاوز واقعنا الملغوم بالتحديات ..
ولاشك أن القطرة التي افاضت الكأس تتعلق بالكم الخطير من التسريبات حول شبكات التجسس و الاختراقات الحاصلة في البلاد بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات على هيبة الدولة ومصداقيتها في نظر ابناءها وهذا الاهم قبل أي طرف اخر ..
ازاء هذه الاحداث و ربما غيرها نتسائل في كثير من الاحيان ان كان من ربان على متن السفينة وان كان الامر بالايجاب فالي اين تتجه البوصلة ..علينا الاعتراف اليوم ان مصيبتنا اليوم أننا ننتمي الى بلد يفتقرأشبه بساحة الغام رغم كل الامال و الاحلام التي رافقت تجربة الانتقال الديموقراطي قبل سبع سنوات و ما عرفته من اصرار على سحب البساط امام المراهنين على دفع تونس الى الحرب الاهلية .و قد تجنبت تونس الاسوا حتى بعد جرائم الاغتيال التي استهدفت قيادات مناضلة شكري بلعيد و محمد البراهمي ..وظل التونسي دوما يراهن على انتصار الحكمة والتبصرعلى كل الحسابات السياسية والحزبية الضيقة و الصراعات المعلنة و الخفية بين حزب نداء تونس الذي فقد الكثير من مواقعه بعد انشطاره و بين النهضة التي استطاعت ظاهريا التماسك لتفرض نفسها على المشهد و تستفيد من انقسامات و صراعات و تشقق الاحزاب الحداثية و الديموقراطية التي لا تزال عاجزة و قبل اشهر على الانتخابات البلدية عن توحيد صفوفها و فرض توازن لم يعد قائما في المشهد الهش ..
لهذه الاسباب و غيرها فانه ليس أمام صناع القرار في البلاد من خيار غيرالتعجيل لا بتكذيب كل التصنيفات السوداء التي تلاحق بلادنا فحسب فهذه مسألة مفروغ منها , ولكن باستعادة ثقة الرأي العام التونسي الذي يسدد أجورالمسؤولين من الضرائب الكثيرة التي يتحملها و تقديم البدائل خلال مهلة محددة لاخراج البلاد من النفق المسدود و التذكر أنهم ازاء شعب ناضج صهرته الاحداث ..و كل هذا لا يمكن أن يتحقق بمواصلة الهروب الى الامام و لا بممارسة الشعوذة السياسية و لا بركوب شماعة المؤامرة والقاء المسؤولية على الغير ..نعم تونس جنة ولكنها جنة محرمة على ابنائها والمفتاح اليها مرتبط بخيارات صعبة ولا بديل عنها و تتمثل في سد المنافذ على الارهابيين و المهربين و الفاسدين والانتهازيين ..كان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يقول “ليس الصعب القيام بالواجب بل الصعب معرفة الواجب”..من يخطب العزة لا يغله المهر ..وعلى اولي الامر أن يتذكروا احرار البلاد الذين منحوهم الفرصة الى ما هم فيه ..السيد رئيس الحكومة الصعوبات امامنا و ليست وراءنا ..
و سواء انتهت جلسة اليوم بسقوط محافظ البنك المركزي أو ببقاءه في منصبه فان التونسيين في حاجة لفهم كيف وصلت البلاد الى ما وصلت اليه و كيف يمكن تجنب الوقوع في الهاوية ؟سنوات حكم الترويكا وما رافقها من ضعف و انهيار لمؤسسات الدولة و انتصاب لالاف المنظمات التي لا يعرف مصادر تمويلها و لا من يقف وراءها مسائل لم تعد تقبل الغموض ..الشفافية ولا شيء غير الشفافية لكشف تمويلات الاحزاب و المنظمات و كل محاولات العبث بامن البلاد و العباد ..التونسيون رسموا اجمل ثورة سلمية من اجل الحرية و الكرامة ولكن ايضا من اجل الارتقاء الى مرتبة الدول الراقية في تعليمها و بيئتها و صناعاتها و علومها و جامعاتها و اكتشافاتها العلمية …و سيحفظون ما تحقق لهم من حرية من اجل اجيال الحاضر والمستقبل …
تعليق واحد