الفلسطينيون وحيرة الخيار بين الأصل والفرع
في الوقت الذي كان ينبغي أن تبلور الهيئات القيادية الفلسطينية على جانبي الانقسام والتقاسم السياسي والجغرافي، مواقف وخطط وبرامج سياسية وتنظيمية أكثر تماسكاً والتفاتاً إلى ما يجمع ولا يفرق، وإلى ما يبلور مواقف راهنة أكثر وضوحا في مواجهة تحديات وجود رئيس أميركي يفتخر بانحيازه لإسرائيل ككيان كولونيالي، لا يختلف عن كولونياليات الماضي الاستعماري التي عينت لهذا الكيان وظيفته الاستعمالية، وقيامه بأدوار تحددت مسبقاً من قبل القائمين على الكولونياليات الأم الاستعمارية، حين كانت تنسحب أو لا تنسحب من مناطق هيمنتها، لتترك ظلالاً ووكلاء لها حتى في بعض الدول التي وصفت بأنها وطنية.
وها هو ترامب يخطو خطوات متقدمة إلى الأمام، قفزاً عن معطيات الواقع الراهن، ليخرج القدس برمزيتها الدينية والسياسية والتاريخية من ملف المفاوضات الفلسطينية– الإسرائيلية، مقدماً وعوداً «همايونية» عن صفقة تسوية توصف بأنها تاريخية، يتوهم أنه يمكن أن يحققها، أو يحدثها في واقع إقليمي منفلت، يشهد العديد من ظواهر ومظاهر الفوضى، كما في واقع فلسطيني لا يقل انفلاتا وانفلاشا وفوضى المواقف غير المتماسكة، واجتراراً لمواقف لم تعد تصلح لما بعد «قرار القدس الترامبي» وصفقته الموعودة. وما تكشف منها حتى الآن، لا يشبه أية تسوية، كما لا يراد للتفاوض في شأنها أن يلتزم أو يحترم القوانين التي يحددها المجتمع الدولي، بقدر ما يراد لصفقة التفاوض أن تملي ما تريده الكولونيالية الإسرائيلية ومن خلفها امبريالية الولايات المتحدة، حتى ولو لم يتحقق للفلسطينيين أي هدف صغير من أهدافهم التحررية.
وعلى رغم من كل هذا، فمن المؤسف أنه وفي أعقاب كل المرارات التي طبعت الخبرات والتجارب الكفاحية الفلسطينية، لم يكن هناك إدراك ووعي حاد بالأخطار والتحديات التي وضعت الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهتها، وإلا لكان للمواقف تجاهها أن تكون مختلفة، وكان ينبغي توسيع مساحات القواسم الوطنية المشتركة، وذلك على حساب الاختلافات السياسية والتنظيمية والفصائلية والمناكفات السلطوية، تلك التي لم تبق للوفاق الوطني والاتفاق على موقف وطني فلسطيني موحد أي أثر أو فاعلية، يمكن أن تؤثر على مواقف القوى المعادية ومن يداهنها ويمالئها في تلك المواقف. على العكس من ذلك، ذهب الموقف الرسمي الفلسطيني الذي عبرت عنه اجتماعات المجلس المركزي واللجنة التنفيذية مذاهب شتى، إذ لم تلزم نفسها بضرورة التقيد بتنفيذ ما قررته، بقدر ما ذهبت لتضييع زخم المواقف الشعبية الرافضة لـ «قرار القدس الترامبي» والاحتفاء الإسرائيلي به، والقفز خطوات إلى الأمام لتنفيذ ما يترتب على هذا القرار من تداعيات مرعبة سياسيا، لن تصب بالتأكيد في مصلحة الفلسطينيين كشعب وقضية مطلقا.
ويبدو أن قرارات المجلس المركزي التي لم توضع موضع التنفيذ، ولم يجر اعتماد آليات تنفيذها ما بين اجتماع المجلس والاجتماعات الأخيرة للجنة التنفيذية التي كان يعول على ضرورة وضعها آليات تنفيذ قرارات مصيرية حاسمة، تضع حدا للإهانات الإسرائيلية واستقواؤها بمواقف يمينية أميركية شعبوية تنحاز انحيازا مطلقا للكولونيالية العنصرية الإسرائيلية؛ هذه القرارات ما برحت تنتظر اعتماد آليات تنفيذها، قبل أن يتم الإيغال أكثر في رمي قفازات التحدي أمام الوضع السلطوي الفلسطيني ودول الإقليم التي لم تعتمد قرارا موحدا بعد في مواجهة قرار ترامب وتوجهات إدارته المنحازة كليا لإسرائيل.
ورغم صوابية تلك القرارات «غير القابلة للتنفيذ»، استمرت حكومة السلطة بالتعاطي مع الإسرائيليين كالسابق، وكان آخرها الاجتماع الذي ضم رئيس الحكومة رامي الحمدالله ورئيس هيئة الشؤون المدنية حسين الشّيخ ووزير المالية والتخطيط شكري بشارة، بوزير مالية حكومة نتنياهو موشيه كحلون ومنسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية يوآف مردخاي.
هذا في حين تستمر علاقة التبعية الاقتصادية، وتتواصل أعمال التنسيق الأمني بكافة أشكاله، ويتم التعاطي مع الفترة الانتقالية التي نصت عليها اتفاقات أوسلو وكأنها باقية، ولم تمت بفعل مسلكيات الاحتلال الكولونيالية، وقد تجاوزت كل الاتفاقات السابقة واللاحقة، وها هو الاحتلال يمضي في سياساته المعاندة والمناقضة لأي حل أو حلول واهمة لدى الجانب الفلسطيني، من دون أن يحرك هذا الأخير أو يفعّل قراراته الباقية حبراً على ورق.
ليس هذا فحسب، فسياسة الاستفراد التي استمرأتها السلطة في اتخاذ قراراتها، لم تعد تقارب بين أطراف الصف الواحد، بل هي أصبحت تباعد بينها كثيرا، و «الحقيقة المرة» التي عبر عنها صائب عريقات قبل أيام في مقابلته مع صحيفة «هآرتس»، مؤشر واضح لمدى الفروق الجوهرية التي بدأت تكتنف الموقف السلطوي الفلسطيني، ليس بين السلطة في رام الله والسلطة الموازية في قطاع غزة، بل بين العديد من فصائل المنظمة المحسوبة على خط السلطة، والتي تعارض الكثير من سياساتها في آن.
أبرز المثالب والسقطات التي شهدناها مؤخرا، تمثلت في أن المسافة الزمنية بين اجتماع اللجنة التنفيذية وكلمة الرئيس عباس في مجلس الأمن الدولي لم تكن بعيدة، وعلى رغم ذلك لم يتم عرض أو بحث ونقاش ما سمي «خطة السلام» التي وردت في الخطاب، ولم يسمع بها لا الفصائل المكونة لمنظمة التحرير ولا ممثلوها في اللجنة التنفيذية، ولا أحد يدري هل هي خطة خاصة بالرئيس، أم خطة فلسطينية لم تعرض على أي جهة فلسطينية؟، وبالتالي هي خطة فردية واستفرادية، ليست خارقة في كل الأحوال، ولن يجري القبول أو الترحيب بها، كونها كذلك لا تحمل توقيع الكل الفلسطيني، ولا حتى النصف السلطوي الرسمي.
علاوة على هذا الوضع المقلوب، يمكن ملاحظة المزيد من الأوضاع الانقلابية، إذ إن القرارات النافذة هي قرارات حكومة السلطة، على الضد من قرارات المجلس المركزي أو اللجنة التنفيذية، ما ولد ويولد خللاً كبيراً في ممارسة كل طرف لمهامه، وإذا ما كانت قابلة للتنفيذ أو مرجأة إلى حين قد يطول، بما سمح ويسمح بإهمالها وعدم التقيد بما يصدر عنها، وهذا هو حال مؤسسات المنظمة المركونة جانباً، مع أنها هي أصل المرجعية الكفاحية والمرجع الأول والأخير، والسلطة وحكومتها هي الفرع.
ماجد الشيخ- كاتب فلسطيني. والمقال للحياة