المصريون بين الإرادة الحرة والإرادة المعبأة
تنطلق فكرة الإرادة الحرة من حالة وعي بالحقوق وإصرار على تحقيقها. هذه سمة ميزت المجتمع المصري على مدار السنوات الماضية. فكان مجرد أن يُحدد يوم يحمل فكرة أو قضية معينة تخرج الملايين وراءها سواء كانت تظاهرات أو انتخابات. أصبح الانتخاب حقاً مكفولاً بمجرد أن يبلغ المصري الثمانية عشرة عاماً، فيستطيع أن ينتخب ببطاقة هويته، أياً كان مكانه على أرض بلده، أو مغترباً خارجها في شكل غير مسبوق في ممارسة هذا الحق الذي جدّد شكل الانتماء لهذه الطيور المهاجرة بممارسة حقهم الانتخابي. وهذه الإرادة أيضاً كانت جامعة لتظاهرات 25 كانون الثاني (يناير) التي أدت إلى سقوط نظام مبارك، ثم تظاهرات الإعلان الدستوري السيئ السمعة الذي استفز الطبقة الوسطى لتنتفض تلقائياً في شكل إرادة حرة ترفض حكم الإخوان، وترجم ذلك في شكل دراماتيكي في 30 حزيران (يونيو) 2013 والذي حُدد كيوم لإخراجهم من السلطة بعد مرور عام على وصولهم إليها.
ونظراً لجلال الهدف كان قد سبقته فكرة عبقرية لحركة «تمرد» بتوثيق توقيع 22 مليون مصري يطالبون برحيل حكمهم. وكانت الدهشة تتسيّد الموقف عندما تمتلئ الشوارع والميادين، على رغم الحر الشديد، بالملايين في وقت لا يتعدى الساعة. فقد جرت العادة لظروف الطقس أن يكون التجمع بعد الظهر، على عكس ما جرى في 2011، سواء بالاعتصام أو التظاهر منذ الصباح. وهنا خبر المصريون ثقافة التظاهر السلمي وأصبح لديهم ثقة في إرادتهم الحرة، فقد انشقت الأرض في هذا اليوم عن المصريين ليخرجوا بالملايين التي تنادي بإسقاط حكم الإسلاميين.
وتكرر هذا المشهد في يوم 26 تموز (يوليو) في ما يعرف بيوم التفويض لمحاربة الإرهاب الذي استخدم من قبلهم كأدوات لبسط وجودهم. وهذه الانتفاضة للطبقة الوسطى كانت على عكس تجمعات أي تظاهرة مرتبطة بالإسلاميين والإخوان التي يخرج فيها الشباب بالتكليف والأوامر بالتجمع أو الانصراف في شكل غريب ومثير للانتباه في أكثر من تجمعات لتؤكد أنهم بالفعل قطيع يسير وفقاً لأوامر تأتي لهم من مكتب الإرشاد أو القيادات التنظيمية. وفي وقفة شهيرة لهم تؤكد ذلك أنهم إذا أرادوا أن يفسدوا تظاهرة أو تجمعاً شبابياً كانوا يُرسلون إشارة ورسائل للبدء بالنزول، فقد حدث ذلك عند حصار المحكمة الدستورية العليا بالطريقة التي عجّلت بنهايتهم بمعاداة مؤسسات الدولة التي يحكمونها. وبالطريقة نفسها قبيل صدور إعلان دستوري بعزل النائب العام السابق المستشار عبد الحميد محمود، فكانت دار القضاء العالي محاصرة بوقفة مُعدة مسبقاً من الشباب مفتولي العضلات لمنع دخول النائب العام الجديد إلى مكتبه عقب صدور قرار عزله.
لماذا هذه الأمثلة؟ نذكر هذه الوقائع لدلالتها الكبيرة المفسرة لعقلية هذا التنظيم في مقابل رد فعل المصريين الذي كان يأتي في شكل جماعي مبعثه إرادتهم الحرة. فكان مشهد خروج المصريين للاستفتاء على الدستور الجديد يبرهن على فكرة الإرادة الحرة له، وبالأخص العجائز والنساء تجدهن يتسابقن ويكن في أول الصفوف للتصويت لإيمانهم بفكرة الوطن والدولة المصرية التي يشعرن فعلاً بقيمتها وأنها مهددة عندما يجدن أن حياتهم وأرزاقهم قد تنتهي بإرهاب الإخوان والمتطرفين. نعم، قد تنجح في الحشد الكبير للناس وقد تنجح في عمل تنظيمات متطرفة، ولكن لا يمكن أن ينتصر ذلك على فكرة الوعي الجمعي للشعوب التي عندما تؤمن بفكرة أو مبدأ يصبح لها هذا الميراث في اتخاذ مواقف تاريخية تعكس إرادتهم الحرة من دون أن يكون هناك تنسيق أو تنظيمات لتجمعاتهم.
فعلى علماء الاجتماع السياسي أن يبدأوا بالإجابة عن تساؤل: لماذا كان المصريون يخرجون بعشرات الملايين في توقيت واحد وهم في الغالب لا يعرف بعضهم بعضاً وليسوا منظمين لا في أحزاب ولا في غيرها؟ هذا على عكس تنظيم الإخوان المسلمين الذي يصبح عندهم من يخالف أمر عدم الذهاب إلى التظاهرات أو الانتخابات مُجرماً في حكم تفكير التنظيم.
مثل هذا الشكل للإرادة المعبأة انتصر عليه وسحقه المصريون بإرادتهم الحرة التي استمرت تثير الاندهاش على مدار السنوات التي انقضت من نظام الحكم الحالي الذي اتخذ قرارات اقتصادية نتيجتها الطبيعية أدت إلى رفع الأسعار إلا أن المصريين بمنطق هذه الإرادة الحرة تقبلوها، في ظل شعورهم بالأمن ويقينهم بقرب اندحار الإرهاب. والتحدي الحقيقي لهذه الإرادة يظهر في الانتخابات الرئاسية التي اختفت فيها المنافسة الحقيقية، بسببين: الأول متمثل في الكاريزمية المخلصة للحاكم الذي أحدث هذا التحول الكبير داخل المجتمع من الناحية الاقتصادية أو الأمنية، واستقرار الدولة المصرية في وسط بيئة دولية مضطربة، ما حجب في الوقت ذاته منافسين حقيقيين له. وثانياً أن فئة المرشحين المنافسين كان هدفهم سواء في جولة الفترة الأولى للحكم أو حتى الراهنة، هو السعي إلى إفشال المشروع الذي أطاح الإخوان. وهذه الفئة عاشت وتعايشت واغتنت من الشعارات وبيع الكلام من دون أن يكون لها إنجاز حقيقي بين الشعب الذي مرّ بسنوات جعلته متمرساً في الفرز بين السياسيين.
فهل يصدق المصريون للمرة الرابعة في البرهنة على أن إرادتهم الحرة هي التي تحدد من يحكمهم مثلما حددت ذلك في السابق بسقوط حكمي مبارك والإخوان وانتصارها لرئيس ذي خلفية عسكرية وسط طوفان مخدر للعقول اجتاح المجتمعات باسم الديموقراطية وحقوق الإنسان؟
عزمي عاشور – كاتب مصري والمقال للحياة