دولة الظلّ الصدرية في العراق
في كتابه «تاريخ العراق»، يشير تشارلز ترب إلى أن السلطة فيه ظلت طوال قرن بيد «دولة ظلّ» تتخفّى وراء المؤسسات الرسمية المعروفة. دولة الظل هذه تنبني على أساس مصالح وعلاقات استزلام بدأت مع الضباط العثمانيين الذين أسّسوا العراق الحديث، مروراً بالإنكليز وحكم البعث ووصولاً إلى دولة ظل تقوم أعمدتها على حزب الدعوة وشبكات المصالح والزبائن الملتفة حوله.
لا أظنّ أن كثيرين ممّن قرأوا تاريخ العراق الحديث سيختلفون على أن الإنكليز مارسوا تأثيراً في نظام الحكم الملكي. ميدان الاختلاف المشروع سيكون حول عمق هذا التأثير وإن كان يصل إلى حد توصيفه بـ «دولة ظل». كما أن الخلاف قد يطاول تقييم مفاعيل النفوذ الإنكليزي سلباً أو إيجاباً.
دولة الظل البعثية أخذت بالترسخ منذ مجيء الحزب إلى الحكم عام 1968، بل إن أجنّتها كانت قائمة قبل ذلك. «جهاز حنين» السرّي الذي أنشأه صدام حسين حين كان الحزب خارج السلطة، تحول إلى «مكتب العلاقات العامة» التابع له بصفته نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة الحاكم، ليتحول عام 1971 إلى جهاز المخابرات العامة. و «لجنة متابعة الاتفاقيات» التي رأسها هو أيضاً كانت هي، لا وزارة النفط، من يرسم سياسة العراق النفطية. و «مكتب الثقافة والإعلام» الذي ترأسه منذ 1973 كان هو، لا وزارة الإعلام أو وزارة الثقافة، من يقود آلة الحقن الآيديولوجي. وبعد تولي صدّام حسين الرئاسة كانت ثمة مكاتب تابعة لديوان الرئاسة توازي كلاً من الوزارات القائمة. وفي موازاة القوات المسلحة النظامية تم إنشاء «الحرس الجمهوري»، ليتبعه بعد ذاك «الحرس الجمهوري الخاص».
دولة الظل هي غير «الدولة العميقة» التي باتت مصطلحاً شائعاً يتطلّب التمييز بينهما معالجة مستقلة. دولة الظل هي ابنة نظام سياسي مؤدلج تنهار بانهياره. أمّا الدولة العميقة فهي كيان يبلور مصالح مشتركة تستعصي على التغيير السياسي.
فهل نجح حزب الدعوة في تشكيل دولة ظلّه في عراق ما بعد 2003؟ دولة الظل بحاجة إلى أن تحتكر الحركة السياسية للسلطة، أو أن تحتكر التسيّد على طائفة كبيرة كما حزب الله في لبنان. وهذا ما استمات ويستميت نوري المالكي لتحقيقه.
في العراق اليوم أجنّة لدول ظلّ. والتعددية القائمة اليوم هي تعددية أمراء حرب لكل منهم إقطاعيته التي تحميها قوته المسلّحة ويثريها مكتبه الاقتصادي وتدافع عن مصالحها وزاراته.
ولعل ما يجعل الانتخابات البرلمانية القادمة في العراق ذات أهمية قصوى لحركات الإسلام الشيعي هو سعي كل منها إلى تشكيل كتلة تمتطيها تكون هي الواجهة المشرعنة لدولة ظل تسعى إلى إقامتها. يعوّل كثيرون على أن البرلمان المقبل سيكون معلّقاً، أي أن أيّة كتلة لن تستطيع تشكيل حكومة بمفردها وستضطر إلى التحالف مع كتل أخرى لتؤمّن لنفسها الغالبية المطلوبة لنيل الثقة. لكن هذا الاحتمال، إن تحقّق، لن يكون كافياً لإبعاد شبح دول الظل عن المشهد الراهن.
شبحان يلوحان في الأفق منذ الآن: المالكي والصدر. شبح المالكي لا يحتاج إلى تفصيل. تحالفه مع قائمة الحشد الشعبي المحتَضَن من إيران يعني أن يتكوّن حرس ثوري عراقي يُخضع القوات المسلحة لسطوته ويحصّنه من سلطة قضائية أثبتت ولاءها لها لكنها قد تجد نفسها مرغمة على فتح ملفّات فساده. وبوسع أي متابع نزيه إعداد لائحة اتهام توصل عقوبته إلى المديات القصوى.
شبح الصدر، الذي يرجّح أن يتحالف مع العبادي بعد الانتخابات، يبدو أكثر مراوغة. الصدر يبدو نقيض كل ما يمثّله المالكي. يدفع الرجل أنصاره إلى التظاهر ضد الفساد والمطالبة بمعاقبة الفاسدين، يطالب الدولة ببسط سلطتها كاملة ويتبنّى مشروع دولة يدير التكنوقراط وزاراتها.
كل ما سأورده هنا معروف لمعظم العراقيين والمتابعين لشؤونهم: سرايا السلام العسكرية التابعة لمقتدى الصدر باتت القوة المسلّحة الوحيدة غير الخاضعة لسلطة الدولة إذ هي ليست جزءاً من الحشد الشعبي المقنّن وإن شكلياً. ومع هذا فهي تفرض سلطتها على مدينة سامرّاء السنّية منذ سنتين. سلطة قتلت قائد لواء من القوات المسلّحة النظامية قبل أسابيع حين خرق حدود دولتها. لوحات سيارات سرايا السلام لا تحمل اسم المدينة، بل تحمل اسم دولتها «سرايا السلام». والصدريون يسيطرون على مطار النجف الذي أعلن مسؤول لجنة تقصٍّ رسمية أنه لم يسلّم الخزينة الاتحادية أو المحلّية ديناراً واحداً منذ افتتاحه. والمفاوضات في شأن بسط سلطة الطيران الاتحادية عليه لا تزال جارية منذ أشهر.
ومع هذا تسير جمهرة بلهاء وراء مقتدى كداعية لبناء دولة ذات هيبة تحارب الفساد. كان الحراك المدني الذي انطلق ضد الفساد يحشد ما لا يزيد عن مئة ألف. لكنه كان قوة ضاغطة أجبرت البرلمان ورئيس الوزراء على استضافتهم والإعلان عن تأييدهما مطالبهم. وحين دعا الصدر أنصاره إلى الانخراط في هذا الحراك، تحول الحراك إلى قوة جماهيرية مهدّدة لا ضاغطة فحسب. لكن الحراك المدني، وإن لم يطرح برنامجاً عملياً لمحاربة الفساد، فإنه كان يتعامل معه على الأقل كجريمة تتوجّه أصابع الاتهام فيها إلى متّهمين يرفع المتظاهرون أسماءهم ويطالبون بمحاكمتهم. مع نزول الصدريين إلى الساحة لم يعد ثمة متّهم. طوال أكثر من ثلاث سنوات ظل المتظاهرون يهتفون ضد فساد يهتف حتى أكثر الفاسدين ضدّه. لم تسعَ كتلة الصدريين في البرلمان إلى استجواب أي مسؤول. لم يكلّف الصدر تكنوقراطه بإعداد لائحة اتّهام بحق أي مسؤول. ولا يعود الأمر هنا إلى قلّة تجربة الرجل أو عفويته. زلاّت لسان بسيطة كانت كافية ليدرك الجمهور أي داهية يقودهم وكم يحتقرهم، إذ أعلن أنه نصح أبرز أعوانه بالإبتعاد عن الأضواء موقتاً حتى تخفت المطالبات بمحاسبته كرمز للفساد. وهذا ما حصل بالفعل.
لست أهدف من كل ما سبق إلى حشد الأدلّة التي قلت إنها متاحة لمن يريد، بل القصد أن أتساءل عن سر هذا الانجذاب إلى حركة يقودها شخص لا يختلف عن غيره من أفراد الطبقة الحاكمة سياسياً والمتحكّمة اقتصادياً.
ظاهرة مقتدى الصدر أقرب من حيث البنية والتوجّه والزئبقية إلى اليمين المتطرف منها إلى حركات الإسلام السياسي. حركة تستمد قوّتها من الإسلام السياسي الشيعي لكنها تطرح شعارات توحي بأنها تميّز بين الدين والدولة. حركة تبدو رافضة مبدأ ولاية الفقيه فإذا بها رافضة ولاية الفقيه خامنئي ومذعنة لولاية الفقيه الصدر (مقتدى أعلن قبل أيام أن بقاء القوات الأميركية في العراق بحاجة إلى «تكليف شرعي»، أي إلى فتوى). يخاطب مقتدى الصدر جمهوره كما يخاطب دونالد ترامب جمهوره: خطاب غير ديني لكن كل مفردة فيه محسوبة لكي لا تغيظ المتعصبّين. مقتدى وترامب خبيران في استخدام مفردات عامّية فظّة توحي لجمهوريهما أن القائد واحد منهم، لكنه في الوقت نفسه قائد متميّز عنهم، قائد كان بوسعه تحقيق مكاسب شخصية لولا أنه آثر خدمة الجمهور، قائد يوحي لجمهوره بأنه خارج مؤسسة الحكم يشكو ممّا يشكون منه، يعاني من السياسيين وتجاذباتهم وصراعاتهم. قائدان سوبر رأسماليان يشكوان من إثراء الغير. مقتدى ابن البيئة العراقية. كان صدّام حسين يقول، وهو يحكم قبضته على سلطة الدولة وثروتها: «نصفي في المعارضة ونصفي في السلطة». نصفه في المعارضة حين يشعر بأن ثمة ما يشكو الناس منه فيستبقهم مؤيداً، وقد يودي بحياة مسؤول محلي يلقي اللوم عليه.
والأمر المثير والمحزن أن هذا الافتتان بحركة تتغيّر أهدافها وأساليب عملها وفقاً لحسابات قائدها لم يعد مقصوراً على جمهرة من بسطاء الشيعة، بل إن مثقّفين وسياسيين مدنيين انغمروا منذ عامين على الأقل في التنظير لضرورة التحالف معها لكي ينتهي الأمر، والانتخابات البرلمانية على الأبواب، إلى أن يفكّ الحزب الشيوعي ارتباطه بتيار مدني ديموقراطي لعب دوراً أساسياً في تأسيسه لكي ينخرط في حركة «الجماهير» الصدرية. أضع «الجماهير» بين مزدوجين، لأن هذه المفردة الهلامية هي مفتاح العلاقة المتشابكة والإشكالية بين اليمين الشعبوي واليسار الشيوعي منذ أكثر من قرن. «الجماهير» هي المفردة التي يسعى كل ديكتاتور إلى أن يبقيها خائفة، خائفة من المستقبل، عاجزة عن تلمّس مصالحها وإيجاد الحلول لها من دونه، خائفة من فقدان القائد. الجماهير هي الكتلة التي استغل مقتدى وترامب عداءها للسياسيين وفسادهم لكي يحوّلاه من عداء لنظام سياسي مشوّه ينتج ويحمي الفساد في مؤسسات التشريع والتنفيذ والقضاء إلى عداء لنظام يقوم على التعددية والفصل بين السلطات بوصفه مشتّتاً الجهود وعاجزاً عن الحسم. ومن يمتلك القدرة على الحسم غير قائد حاسم متعال على المصالح الشخصية؟ أي حاكم لا يريد بسط سلطة الدولة إن كان هو المتحكّم بالدولة؟ أي حاكم لا يريد حكومة تكنوقراط إن انفرد في الحكم؟ التكنوقراط عند ذاك هم الروبوتات الذين يحرّكهم مالك المشروع.
هل يجهل الشيوعيون تلك الحقائق؟ أخشى أن الجواب بالنفي. أزيح جانباً دوافع التواطؤ المصلحي بين قادة شيوعيين وبين الصدر وأشير إلى آفتين تتآكلان الجسم الشيوعي: أولاهما، اللهاث وراء الجماهير هلعاً من التهميش وانضواء تحت قيادة حركة جماهيرية يزيدهم تهميشاً، وثانيتهما أن التفكير الشيوعي، على رغم كل التحولات والهزات والإدعاءات، يظل يحمل تلك الجينات السامة: الانبهار بالحاكم المتسلّط لا بسلطة الدولة.
عصام الخفاجي – كاتب عراقي والمقال للحياة