مَن يريد استمرار الأزمة في ليبيا ؟
تثير تصريحات وزير خارجية حكومة الوفاق الوطني في ليبيا الطاهر سيالة، حول العملية الانتحارية التي استهدفت أخيراً مفوضية الانتخابات في طرابلس، تساؤلات عدة. وكان سيالة وصف تلك العملية بأنها «بالغة الخطورة»، وأنها تعني أنه ما زالت هناك جيوب لـ «داعش» في العاصمة الليبية. وفي الحقيقة أن هذه الجريمة الجديدة تحتاج إلى وضعها في سياق مجمل الأوضاع في هذه البلد. ولعل السؤال الأول المهم، هو لماذا تستهدف «داعش» أو غيرها من التنظيمات الإرهابية، مفوضية الانتخابات، قبل إعلان عقد أي انتخابات؟ ففهم هذا يستدعي العودة إلى بعض الخلفيات المهمة.
فالمعروف أن مفوضية الانتخابات الليبية تتمتع بقدر ملحوظ من الصدقية والاحترام في الأوساط الليبية والدولية، وأنها نجحت في الإشراف على عمليتين انتخابيتين، أولاهما كانت انتخاب المجلس الوطني، وثانيتهما انتخابات مجلس النواب الحالي. وفي كل مرة كانت التيارات الوطنية غير المؤيدة لتيارات توظيف الدين الإسلامي في السياسة، تحقق فوزاً ساحقاً. وأدت تجربة إرهاب التنظيمات المتطرفة إلى لجوء أعضاء المجلس الوطني الليبي والحكومات الليبية المنبثقة عنه، إلى مدينة طبرق الساحلية شرق ليبيا. وبعد ذلك رفض الإخوان والميليشيات المسلحة هذه الخطوة، وأنشأوا كياناً سياسياً غير شرعي في طرابلس، مستندين إلى ادعاء عدد من أعضاء المجلس الوطني أنه لا يزال قائماً. وهو ادعاء لا يستند إلى أي أسس قانونية أو حقيقية، وبدلاً مِن أن يتحد المجتمع الدولي في تأييد مجلس النواب الشرعي وما تنبثق عنه من حكومة بما يستقيم مع التشدق الغربي حول الديموقراطية واحترام نتائج الانتخابات الشرعية، فإذا بالمبعوث الأممي برناردينو ليون يواصل سياساته أو لنقل تصوراته حول التمكين للإسلام السياسي في حكم المنطقة، بدعوى أن هذا يحقق الاستقرار أو مصالح أجهزة ومؤسسات غربية معينة، من هنا كانت التسوية المغلوطة المعروفة باسم اتفاقية الصخيرات، والتي تبنتها أطراف غربية وتماشى معها العالم العربي تحت ظن أن هذا قد ينهي الدائرة المفرخة للعنف وعدم الاستقرار في ليبيا. وهي تسوية مغلوطة، لأنها تقوم على افتراض المساواة بين المجلس النيابي المنتخب صاحب الشرعية أي مجلس النواب، وممثلي المجلس المنتهية ولايته، والذي مثّلته أقلية من ممثلي فصائل الإسلام السياسي الدعومة بالميليشيات المسلحة. على أن جهود ليون ومغالطاته لم تتمكن من فرض هذه التسوية المشوهة، التي تعتبر رسالة خطيرة في دلالات ونتائج العملية الانتخابية، واستخدام السلاح لفرض الإرادة السياسية، وأن مَن يسيطر على الشارع بالقوة له حق الحكم أو المشاركة فيه. وبعد استقالة ليون وخروجه كوسيط دولي قبل أن تتبين معالم التسوية الوهمية التي أنجزها، خلَفه المبعوث الألماني مارتن كوبلر، والذي بذل جهوده لمحاولة تنفيذ هذه التسوية أو هذه الصيغة المختلة.
أخفقت هذه الجهود ورحل كوبلر بدوره، وتم اختيار السياسي والمفكر اللبناني البارز غسان سلامة، الذي طرح في البداية محاولة استكمال جهود سلفه بتدارك عيوب هذه الاتفاقية ليكتشف صعوبة ذلك. وهو أمر متوقع، سواء لأن هناك قدراً من توازن القوى بين الأطراف المرتبطة بمجلس النواب والجيش الليبي والشعب الليبي في جانب، وفي الجانب الآخر الميليشيات المسلحة وبعض المتعاونين معها مدعومين بكل من قطر وتركيا وتؤاطو غربي، وهو توازن هش بدرجة كبيرة. أو لأنه ببساطة لا يمكن فرض هذه التسوية المشوهة. المهم أن سلامة اكتشف بعد شهور قليلة عدم إمكان استمرار فرض هذه الاتفاقية، فبدأ التلويح الأممي سواء منه أو من سكرتير عام الأمم المتحدة بأن الحل الوحيد هو عقد انتخابات نيابية جديدة. هنا بدأت مشكلة تيارات العنف تنكشف مرة أخرى، وهي أنها مثلها مثل الفاشية والنازية يمكن أن تقبل فكرة الديموقراطية مرة واحدة إذا ضمنت وصولها إلى الحكم. فهذه التيارات تدرك جيداً أن انكشافها سيبدأ بمجرد إعلان نتائج أي انتخابات نيابية جديدة، فهي لن تحصد سوى الفشل بل إنها تدرك تزايد انصراف الشعب الليبي عنها ورفضه لها ولاستمرار إرهابها وتجاوزاتها.
وينقلنا هذا إلى سؤال آخر: لماذا تقدم «داعش» على هذا ومِن دون مقدمات أو حتى إعلان الأطراف الليبية قبولها لهذا الخيار؟ لماذا تتعجل وتقدم على هذه الجريمة الجديدة؟ وهنا يمكن القول إن هذا التعجل يعني أمرين، أنه استهداف للفكرة، أي فكرة الديموقراطية والانتخابات بالأساس، وأن تماشي هذه الأطراف الليبية المختلفة مع تلك الفكرة كان مشروطاً باتخاذها مطية للوصول إلى الحكم. وبعد أن أثبتت تجربتان مواقف الشعب الليبي الحاسمة في هذا الصدد، فإن العداء للخيار الديموقراطي هو أمر محسوم من غالبية هذه التيارات. والأمر الثاني هو التعبير عن قلق هذه التيارات من مزيد من انحسارها وتراجعها في الساحة الليبية.
ثم إن هذا، ثالثاً، دليل إضافي على ما أكدته الساحة الليبـــية منذ الثورة من الترابط الوثيق بين تيارات توظيــــف الدين في السياسة، ومثلما تتحد في كل مواجهة عسكـــرية ضـــد الآخـرين، بصرف النظر عن اقتتالهم للنفوذ والسيطرة كأمراء حرب، فتواصل بعض التيارات كالإخوان الحوار، وتقوم «داعش» وأمثالها بالترهيب والتخويف.
الأمر الرابع، هو أن هذه العملية الإرهابية الانتحارية هدفها واضح هو الردع من وجهة نظرهم، ومعنى هذا أنه خلافاً لنموذجي الانتخابات السابقة بعد سقوط القذافي، فإن النية مبيتة لاستهداف ومنع حدوث الانتخابات إذا أمكن، أو استراتيجية إضعاف الإقبال التصويتي بما يسمح بطرح نفس الحجج أو الادعاءات السابقة من أن ضعــف الإقبال التصويتي يدفع نحو صخيرات جديدة، وأن سيناريو مشابهاً لهذه الاتفاقية التي لم تنجح في تسوية الأزمة، ليفقد هذا الشعب ثقته في هذه الأداة لاختيار حكامه، وفي جدوى العملية الانتخابية من أساسها.
ما يحدث في ليبيا أمر واضح واستمرار تآمر بعض الجهات وتمشيها مع النهج القطري – التركي في استمرار دعم الميلشيات وما تمثله من قوى سياسية هامشية، لن يسفر عن استسلام شعب ليبيا في تقديري الشخصي ومن وحي متابعتي لشؤونه، وإن كان سيضيف إلى معاناته وبطء استقراره، على أني أتمنى أن يواصل المبعوث الدولي خطاً واضحاً لعقد الانتخابات النيابية والالتزام بنتائجها ودعم الشرعية وحدها في ليبيا وليس مشروعاً وهمياً لن يكتب له الانتصار.
محمد بدر الدين زايد – كاتب مصري والمقال للحياة