حوار الأديان لا علاقة له بالأزمة السورية
الحوار عمل فكري وقيمة حضارية، سواء توصّل الى نتائج أم لا، وأن تُقام لممارسته مؤسسات ومراكز ابحاث، وتُعقد تحت مظلته مؤتمرات وندوات ومنتديات، فذلك فضل قِيَميّ يضاف الى منظومة القيم الانسانية، من هذا المنطلق تُحترم فكرة اقامة مؤسساتِ حوار الاديان، وشقيقاتها هيئات حوار الحضارات، وما يرشح في أسفارهما البحثية عن صِيَغٍ للمساواة بين الناس أفراداً وجماعات، ودُولاً، ومذاهبَ، ما يُترجَمُ غائياً بالبحث عن التعدديةِ الثقافية المغضوبِ عليها في الذهنيات المغلقة؟
لا شك ان الهدف من اقامة هكذا مؤسسات ومراكز ابحاثٍ وهيئات، هو علاج مشكلة التطرف، إذ لا مشاكل بين الاديان كي تتحاور لتحلها، والاختلاف الفكري مسألة لاتُمسّ بالحوار وما وُجدت مؤسساته لهذه الغاية، بل المشكلة بتعدد قراءات كل مذهب لنفسه وادواته، وتصارع القراءات داخل البيت الواحد، مع اُفول دَوْرِ المرجعيات في فضِّ الاشتباكات الفكرية داخل منتجعاتها المذهبية؟
حوار الاديان لم يرشح عنه ما يدل على انه سلك الطريق الى حل المشكلة المُستهدَفة وهي «التطرف»، و قراءته للتراث مجدداً داخلَ فضاء منفتحٍ على البحث خطوةٌ تحترم إعادةَ الاعتبار للعقل بعد هزائمه التاريخية في الوطن العربي على امتداد عشرات القرون، وطالما العقل قيد التداول كما يُظَنُّ، فالحوار يُحْتَرَمُ، لكن يُخشى من هزيمة للعقل جديدة، وإذا حدثت فلن تفاجئنا؟
عملياً حوار الحضارات يتعامل فيه الطرف العربي على انه بحثٌ في منتجات الاديان، وليس في منتجات الفكرالانساني الحر كما تتعامل معه الاطراف الاخرى عامة، وجميع هيئاته العربية المُحْدَثة، التي تقرأ، وتُعالج، مسائلَ المساواة والتسامح، تحصد نتائج كما نراها الآن: استفحال اللامساواة، ونموُّ كمٍّ هائلٍ من التعصب تحت عباءة التطرف، والحرب العبثية على الارهاب؟
واقعياً لا توجد حروب بين العقائد تقتضي مجلسَ أمنٍ مذهبي لفضّ اشتباكاتها، التي لاتتعدّى المناوشات بالقذائف الفكرية العشوائية، فهي متوافقة ولو مجاملة على ايجابيات الاختلاف، ومرجعياتها لاتكل ولاتمل من الدعوة الى التسامح والمساواة، واحترام الحدود الفكرية بين المذاهب، هذا كل ماتستطيع ان تفعله ولو ذهب كلامها ادراج الرياح، وبمنتهى الدِّقة لا مشكلة بين الاديان رسميّاً، فكل طرف يحترم حدود بقية الاطراف، وبالتالي لاتُعقد الآمال على الحوار الرسمي فيما بينها، إذا كان الهدف هو تجفيف منابع الإرهاب او إغلاقها ولو موقتاً؟
جذور المشكلة في الارضيات الخصبة لنموِّ التطرف، داخل بعض المذاهب، وامتلائها بخلايا نائمة، وهكذا ارضيات قد يدمرها قصفٌ عشوائيٌ كما فعل النظام السوري، امّا خلاياها النائمة فقد هجرت الابنية والاقبية والانفاق، الى أحضان الأنظمة، المحلية والإقليمية والدولية، ومؤسسات الحوار ليس بمقدورها اختراق العباءات السياسية لا فكرياً ولا لوجستياً للوصول الى تلك الخلايا!
يصعب على أيّ هيئة بحثية ان تكون فاعلةً في تجفيف منابع التطرف، اوتخفيف تدفقها على أقلّ تقدير، إن لم تمتلك قدرة احتجاجية تفوق قدرة التطرّف على التأثير بالشرائح التي يتوجّه الخطاب إليها، لاسيما عندما تضع بعضَ قِيَمِ التراث تحت المجهر كالغزو، والسبي، والسلب، ونشر المذاهب بالقوة، وإعادةِ تقويم «الفتوحات الاسلامية» العربية وخليفتها العثمانية، وفصل المقال في منظومة القِيَم بين الإنسانية منها والداعشية التي فرضتها هذه «الفتوحات» بقوة الانتصار الميداني؟
لايمكن التفاؤل بإعتماد قراءات جديدة للتراث مالم تمتلك الجهة القارئة مشروعية الغربلة، امام الفلتان العجيب في تكاثر المرجعيات المُسيّسة المبتكرة من التراث ذاته؟0 غالبية المؤسسات العربية الثقافية والحوارية ومراكز البحث في اوروبا، هي مؤسسات تبشيرية، حتّى التي اُقيمت في إطار الحوار العربي الاوروبي، كندوة البندقية عام 1977 التي أنشأت معاهد لتعليم اللغة العربية في معظم الدول الاوروبية، تحوّلت الى معاهد تبشيرية، ثمّ استولى عليها الاسلام السياسي المتطرف، وندوة الحوار العربي الاوروبي «هامبورغ 1983» أنشأت مراكز ثقافية في معظم العواصم الاوروبية، العنصر العربي فيها بدأ مبشِّراً مُغلقاً، واستقرّ متطرفاً، وقِسْ على ذلك عشرات الآلاف من الجمعيات الخيرية ظاهرياً، والتبشيرية المتطرفة فعلياً، ولم يعد بمقدور الدول العربية التي دعمت تلك المنابع، ان تعيد النظر فيها وقد استولى عليها التطرف، واصبحت هيئاته حكومة ظلٍّ تموّل هذه المنابع، وباسمها تستجرّ التبرعات من الدول والمنظمات والافراد، ولواُجرِيَ إحصاءٌ دقيق في اوروبا للبُؤَرِ المتطرفة، لوجدنا منابع الارهاب في المانيا وبريطانيا، تفوق منابعه في تركيا، والاعيُنُ الامنية ساهرة على حمايتها بقوة القانون!
استخدام الدين لسد المنابع او تجفيفها، أمر لاجدوى منه في ظلّ مسرحية الحرب على الارهاب اقليمياً ودولياً، وتحديداً على تنظيمي داعش والنصرة، اللذين بفضلهما قُضيَ على الربيع العربي، وبقيت فوضاه العقيمة، مع استمرار الحاجة اليهما طالما المنطقة لم تصل (ولن تصل) الى استقرار دائم !
الشارع السوري بكل اطيافه لايرى جدّيّةً بالحرب الدولية على هذين التنظيمين في سورية والعراق، وهو يرى احتضان تركيا لجبهة النصرة في ادلب بمباركة إقليمية أممية، ولن تتوانى عن ضمِّ الدواعش تحت عباءتها بعد انسحاب قوات التحالف الأميركية تاركة لاردوغان مهمة وصل ما انقطع بين تنظيم داعش وشقيقته جبهة النصرة، لاستخدامهما في حربه ضدّ «الارهاب» الكردي، وهذا المآل في وضع الشمال السوري ليس مستغرباً في قراءاتنا له سابقاً، لكن طموحات تركيا بالتوسع شرق الفرات، يحيل الى متاهة من الغموض حول مدى التوسع في حدود الإمارة «الراشدية» إدلب، بينما الازمة السورية في مرحلة التشطيب دولياً؟
بالامكان «إغلاق» المنابع «وفتحها» بارادة سياسية في هذه الدولة اوتلك، هذا لايعني تجفيفها، فالمنابع المغلقة تُفتح متى شاء مُغلقُها، امّا تجفيفها فيحتاج الى عمل استراتيجي مختلف يبدو انه مازال مؤجّلاً، حتى سدُّ المنابع ليس بالامر المُيَسّر طالما الفقيه(العثماني)اردوغان يرعى تدفقها داخل الحدود التركية وخارجها!
عادل يازجي-كاتب سوري، والمقال للحياة