كان الرئيس الراحل هواري بو مدين، فيما أعرف، من أكثر الزعماء العرب فهما لدور الإعلام في صياغة الرأي العام، داخليا وخارجيا، لينسجم مع توجهات البلاد وليساهم في حماية مسيرتها ودعم تنميتها وردع خصومها.
ومن هنا كان الرئيس يحرص على عقد لقاءات متواصلة مع الإعلاميين الوطنيين والأجانب، وكان من بين هؤلاء الصحفي المصري الفرنسي بول بالطا، الذي خسرت الجزائر بوفاته في الأسبوع الأسبق واحدا من أهم أصدقائها الإعلاميين بعد أن فقدت في العام الماضي الصحفي السوري الجزائري قصيّ صالح الدرويش.
كان بول قد عاش التجربة المصرية التي تألق فيها الرئيس جمال عبد الناصر لكنه، عندما عُين في الجزائر قبيل مؤتمر عدم الانحياز وبعد وفاة الرئيس المصري، كان يُعطي الشعور بأن هواري بو مدين قادر على ملء الفراغ الذي تركه ناصر، وبرغم أن الرئيس الجزائري كان يرفض تماما التجاوب مع تلك المشاعر، إلا أن بول كان يسميه “الرئيس الأكثر حضورا” إلى جانب عبد الناصر.
وبالطا من الكتاب القلائل الذي خصصوا كتابا هاما لمسيرة الرئيس الجزائري صدر بعنوان “استراتيجية بو مدين”، ووصفه قائلا: بأنه “كان صاحب فعل كما كان صارما وكان خجولا كما كان فخورا وكان إنسانيا”، وبهذا يُمكن أن يُقال أن الكتاب الفرنسيين هم وحدهم الذين أصدروا كتبا عن الرئيس بو مدين، ومن بينهم آنيا فرانكوس وجان بول سيريني.
وكان من أهم ما لاحظته أن بول كان يأتينا إلى الرئاسة وهو بالبرنوس، وأعتقد أن ذلك كان من باب التحبب للرئيس.
من أهم ما مكن بول من دراسة الوضعية الجزائرية بموضوعية كبيرة تكوينه المهني، وفي الوقت نفسه إلمامه باللغة العربية، بحيث لم يجد نفسه محصورا في سجن اللغة الفرنسية، وبالتالي أسيرا لأفكار معينة قد لا تعكس دائما واقع الجزائر بقدر ما تعبر عن خلفيات أصحابها، ومنهم من هم متزوجون بغير جزائريات.
وأحس الرئيس هواري بو مدين بأن هذا الإعلامي يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة للجزائر، وكنت، كمستشار مكلف بالإعلام على مستوى رئاسة الجمهورية، أقوم بتنظيم لقاءات دورية له مع الرئيس ، تماما كما تم ذلك مع آخرين مثل جون دانيال ” نوفيل أوبزرفاتور”، وروبرت لامبوط “ليومانيتيه” وجورج مونتارون “الشهادة المسيحية” ، وبيير برنار “دار سندباد”، وكذلك صحفيون من التلفزة الفرنسية مثل جيرار سباغ، ومن المشارقة كان هناك لطفي الخولي وفؤاد مطر وأنيس منصور، كما نظمتُ عدة لقاءات للرئيس مع الأستاذ هيكل دامت عدة ساعات، كان الغريب أنه لم ينشر عنها حرفا واحدا، وقيل يومها أنه كان يخشى اندفاع البعض نحو عقد المقارنات.
ويكفي لتأكيد العلاقة التي نشأت بين بول والجزائر أن الرئيس قال له له في آخر لقاء له، والذي جاء إليه بالطا بالبرنوس: ليتك بقيت معنا لتعيش استكمال التجربة التنموية الجزائرية بعد إنشاء قمة الهرم التشريعي، أي المجلس الوطني الشعبي، والاستعداد لعقد مؤتمر الحزب الذي سيعرف إعادة تقييم الرجال والإنجازات، وكان بالطا سعيدا بهذا التقدير ولم يُخفه عن زملائه في المركز الرئيسي، الذي كان قد اختار خليفة بول وهو الصحفي الفرنسي دانييل جنكا، الذي كان من المتيمين بالرئيس الجزائري الأسبق، أحمد بن بله.
ومن هنا مرت فترة كاد جنكا يحس خلالها بأنه غير مرغوب به في الجزائر، وكان عليّ أن أقنعه بأن وفاء الجزائر لبول بالطا هو موقف طبيعي تجاه من يحبونها، وأننا نتصرف بنفس الطريقة مع كل صديق تنتهي مدة عمله كمراسل إعلامي في بلادنا، وسيحدث هذا معه إن كان يحبنا.
والحديث عن بول يطول، ويكفي أنه، ومن قوة التزامه مع الجزائر، كان هناك من يسميه “محمد بالطا”، لكنني أسجل له هنا وقفة رجولية ضحى فيها بالالتزام المهني لصالح الرصيد الأخلاقي، عندما استجاب لطلبي في ألا ينشر شيئا عن قضية ماسكينو التي ورد فيها اسم المناضل الجزائري مسعود زقار، وهو مناضل جزائري كبير أساءت له الصحافة الكندية في قضية عائلية شائكة.
واستجاب بول لرجائي ولم يرسل حرفا واحدا إلى “لو موند” وانتظر حوالي ستة أيام، كان يهاتفني خلالها يوميا ليبلغني بأنه لم يتلق اتصالا من المعني بالأمر ليعرف القصة الحقيقية منه، وبأن إدارة الجريدة تضغط عليه ليكتب مراسلته.
وبعد نحو أسبوع اضطر بول إلى الالتزام بمتطلبات المهنة، وكتب سطورا استقى معظمها من الصحافة الكندية، وقال لي فيما بعد أنه تعرض للوم كبير لأنه اعتبر مُقصّرا، وكدت أفهم منه أن هذا هو سبب إنهاء مهمته في الجزائر.
رحم الله بول بالطا، وألهم زوجه السيدة كلودين رولو، شقيقة سفير فرنسا السابق في بيروت، الصبر والسلوان، ورزقنا بإعلاميين أجانب في نفس المستوى وبنفس الحب، وقبل ذلك، زاد من عدد الصحفيين الوطنيين الذين يفهمون معنى الوطنية.