بداية، أعتذر لأنني لن أنتهز فرصة استقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة لكي أتصدر مجموعة المهللين والمكبرين والمزغردين لانتصار من المؤكد أنهم لم يساهموا في تحقيقه، وهم الذين كانوا، منذ أسابيع قليلة، ينحنون احتراما لإطار فيه صورة ملونة للرئيس، ويلتقطون لأنفسهم الـ”سيلفي” لتسجيل المناسبة السعيدة.
ومع تفهمي للفرحة التي يحس بها المواطن أقول بدون تردد أنني أحسّ بالكثير من الأسى لأن رجلا في مستوى الرئيس الجزائري خرج من الباب الضيق، وهو الذي كان يأمل في خروج من أوسع الأبواب، ولو على عربة مدفع تقود جثمانه إلى مقبرة العالية، أو إلى موقع ما في المسجد الأعظم.
وكانت صورته، وهو يبدو منهكا مرهقا بالقندورة، يسلم رسالة الاستقالة لرئيس المجلس الدستوري آخر ما كنت آمل أن أراه وأنا أصافحه يوما كوزير في حكومته الثالثة، وبرغم كل ما يمكن أن آخذه، شخصيا، عليه.
وأشعر بالأسى لأن الرجل الذي قدم للجمعية العامة للأمم المتحدة ياسر عرفات، وساهم في تحقيق السلام بين العراق وإيران، واستكمل مشروع المصالحة الوطنية التي أطلقها الرئيس اليمين زروال، هذا الرجل يتعرض اليوم للتشفي والشماتة ممن كادوا يوما يمزقون ملابسه وهم يحتضنونه، وهم رعاع مشكوك في جزائريتهم، لأن الكريم لا يشمت ولا يتشفي في حالات المرض أو الموت.
وحقيقي أنه يتحمل المسؤولية الأولى في هذه النتيجة المؤلمة لأنه لم يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، لكن هذا ليس وقت تحديد كل المسؤوليات، وهو آت لا شك عن قريب.
اليوم أقول إن صفحة من صفحات سجلّ الوطن العربي انطوت اليوم، وسيأتي اليوم الذي سنتوقف فيه أمام معطيات كثيرة، فيها الإيجابي ومنها السلبي، لكنني اليوم أضيف إلى الأسى الذي أحسست به مشاعر الأسف لأن الرئيس، باستقالته اليوم على وجه التحديد، خيّب أملي في حسن تقديره للأمور، وبحيث يتملكني الشعور بأن استقالته لم تكن قرارا مدروسا متعقلا بقدر ما جاءت كردّ فعل غاضب على بيان المؤسسة العسكرية، بدلا من أن تكون موقفا حكيما يخرج به برصانةٍ ورزانة من مسؤولية تحملها نحو عقدين من الزمن.
يقول الرئيس في رسالة الاستقالة إنه استقال “حرصا على تفادي المهاترات اللفظية”، والذي استمعوا لنص رئيس أركان الجيش لاحظوا أنه كان نصا عنيفا عبّر عن غضب المؤسسة مما رأته تهربا من مواجهة الموقف بما يتطلبه دستوريا، ومماطلة في الاستجابة لمطالب الحراك الشعبي من الممكن أن تزيد الأمور سوءا، وتؤدي إلى تعقيد الوضع بما يجعل إمكانية الصدام في الشارع على قائمة الاحتمالات، في بلد ما زالت ذكريات أكتوبر والعشرية الدموية في الأذهان.
واستعمل الفريق أحمد قايد صالح، للمرة الأولى على ما أعتقد، تعبير العصابة، في الإشارة لما اصطلح على تسميته بقوى غير دستورية.
لكنني أجد نفسي مضطرا للقول بأن اختيار هذا اليوم بالذات لتقديم الاستقالة كان خطيئة لن يغفرها التاريخ لمن نصح بها أو دفع إليها، لأن خطورتها قد تتجاوز كل توقع.
فمهمة ربان السفينة أن يضمن سلامة الجميع، حتى في حالة حدوث تمرد ضده.
كان الرئيس، أو من يتحمل مسؤولية إصدار القرار باسمه، يعرف أن الحكومة التي تم تكوينها لا تحظى بأي قبول، لكيلا أقول أنها لم تحظ بأي احترام من قبل الأغلبية الساحقة، وهو ما يعني أن الحكومة ستكون قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة.
ولأن المادة 104 لا تسمح لرئيس الدولة في مرحلة الشغور بإجراء أي تعديل للحكومة فقد كان يجب أن تسبق استقالة الرئيس عملية تشاور تسمح بتكوين حكومة أخرى من شخصيات تضمن حدا أدنى من التوافق، إن لم يكن الحدّ الأعلى، وخصوصا بالنسبة للوزير الأول، الذي كان من الممكن، إذا تعذر اختياره من بين المدنيين، أن يكون شخصية عسكرية تكلف بمهمة محدودة الزمان والصلاحيات.
وهذا يعني أنه كان من الخطأ، لكيلا أقول من الجرم، تحديد بدء فعالية الاستقالة من يوم الثلاثاء، بدلا من تأخيرها عدة أيام، حيث أن تاريخ 28 أبريل ما زال بعيدا، وقرارات مصيرية كهذه يجب أن تؤخذ بأناة وليس كردّ فعل مهما كان مبرره.
وكان الرئيس يعرف أن هناك تحفظات كثيرة على عبد القادر بن صالح، رئيس مجلس الأمة، وكان في مقدوره بالتالي أن يُعيّن في الثلث الرئاسي، وهو الذي يختار عادة رئاسة المجلس وما زالت فيه مقاعد شاغرة، عددا من الشخصيات التي تمكن مجلس الأمة من اختيار إحداها لرئاسة المجلس عند الضرورة، ثم لرئاسة الدولة في المرحلة الانتقالية التي تتم خلالها الانتخابات الرئاسية.
وكان الرئيس، أو من يتخذ القرار باسمه، يعرف أن هناك فراغا مرتبطا باللجنة المكلفة بتنظيم الانتخابات، وكان واجبه بالتالي، وقبل أن يقدم استقالته، أن يعين هذه اللجنة بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة لتمكنها من القيام بدورها.
هذه انطباعات سريعة أخطها وأنا أتابع هستيريا العناصر التي صدمت من ضياع فرصتها في انتزاع مواقع قيادية في المرحلة القادمة، لأن الجيش أصرّ على احترام الدستور نصا وروحا، ولأن الشعب أدرك أن من واجبه دعم موقف المؤسسة العسكرية، مهما كانت تحفظاته على تشكيل الحكومة أو رئاسة الدولة، لأنه يعرف أن هذا وتلك سيمارسون مهمة محددة تحت العين الساهرة للجيش الوطني الشعبي.
وبرغم كثرة عدد المحللين الإستراتيجيين والخبراء السياسيين والمعلقين الإعلاميين، الذي راح كثير منهم يداعبون حماس المتظاهرين بمزايدات لغوية مللنا منها في الأيام الماضية، ويقللون من قيمة الحدث بعد أن كانوا يشككون في دستورية المادة 102 أو فعاليتها، فإن كل من تحادثت معهم من الرفاق هاتفيا كانوا يرون أن خطوة كبيرة قد تم اتخاذها، وبأن الغد سيكون أكثر إشراقا، لأن شعبنا استطاع أن يفضح كل من حاولوا ركوب الحراك، تصفية لحسابات قديمة أو سعيا لمواقع مأمولة.
ومن هنا أعتقد أن العناية الإلهية أعطت اليوم قيادات المعارضة الفرصة لإثبات وجودها كقوة مؤثرة تدفع لاتخاذ مواقف متعقلة قد لا تتماشى بالضرورة مع كل الهتافات في الشارع، ولكنها ضرورة لضمان الانتقال السلس للسلطة، وهذا هو الفرق بين النسور التي تقف على القمم الشماء والجوارح التي تنتظر الفرصة لتنهش الجثث.
وهنا يأتي دور المثقفين وصناع الرأي، لكي يؤكدوا للجماهير بأن العنب لا يؤكل بالعنقود وإنما حبة حبة.
دكتور محيي الدين عميمور- مفكر ووزير اعلام جزائري سابق- المقال من رأي اليوم