كانت عناوين أخبار بريطانيا نهايات الأسبوع الماضي في وسائل إعلام عربية ودولية عدة، تشير إلى أن بريطانيا قد وصلت إلى طريق مسدود، ثم بدأ بصيص ضوء خافت باتفاق البرلمان البريطاني على تأجيل البريكسيت حتى 12 نيسان (أبريل) الجاري، والزام رئيسة الوزراء بضرورة التوصل إلى إتفاق قبل الخروج، وزادت وتيرة اتصالات تيريزا ماي مع زعيم حزب العمال للتوصل إلى مخرج، وأبدى البرلمان الأوروبي كرما بالسماح بدخول مواطني بريطانيا من دون تأشيرة، وقد تواصل الاهتمام الدولي والإعلامي بهذه الأزمة وذلك على رغم كثرة الأحداث ومظاهر الفوضى الدولية بدرجات مختلفة في مناطق العالم كافة.
وقليل من وسائل الإعلام حاولت الدخول في تفاصيل هذا الخلاف داخل البرلمان والمجتمع البريطاني، فالموضوع ملئ بالتفاصيل المعقدة لخبراء السياسة والاقتصاد وليس فقط المواطن العادي، فالاتفاق كما كتبوا عنه يقترب من 600 صفحة إلا قليلاً، ويتضمن مسائل معقدة بشكل خاص بسبب استمرار أرلندا الشمالية في الاتحاد الأوروبي، وشهد البرلمان البريطاني العديد من الجلسات وكلها لم تسفر عن شيء حتى الآن. وكان مشهد التصويت قبل الأخير في البرلمان البريطاني كافياً للقول بلغة مبسطة أنه لا شيء مقبولاً أو قابلاً للتمرير، فقد تم رفض بديل الخروج مع إبقاء علاقات اقتصادية خاصة وتحديداً اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي ولكن بفارق ضئيل من ثلاثة أعضاء فقط، وبفارق ضخم بشأن البقاء ضمن سوق موحدة بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي 282 في مقابل 216 على غرار حالة النرويج، كما تم رفض بديل كانت ماي تتجنب طرحه وهو عقد استفتاء جديد وذلك بأغلبية 292 في مقابل 280، وذلك على رغم أن هذا البديل الأخير كان يبدو منطقياً بالنسبة لأي مراقب خارجي، وكانت وسائل إعلام بريطانية قد بدأت الحديث عن هذا الحل، وهو أنه ما دام الأمر بهذه الصعوبة، فلماذا لا يتم عقد استفتاء جديد، خاصة أن استفتاء الخروج كان بنسبة 52 في المئة في مقابل 48 في المئة، ولكن لم تحاول تريزا ماي طرح الأمر في مراحل سابقة لأنها تدرك أن في هذا مساس بهيبة بلادها وبمدى نضج شعبها الذي مازال يعتبر نفسه نموذج التقدم والديموقراطية، ولا تريد بالطبع أن يبدو الأمر وكأن القرارات صبيانية وعشوائية ومتعجلة، ومع ذلك نشرت الإندبندنت البريطانية مقالة منذ قرابة الأسبوع أشارت إلى وجود استطلاعات للرأي تتوقع اتجاه الأغلبية الآن لتفضيل البقاء بنسبة 55 في المئة، وأحد حيثيات ذلك، وجود توجه متزايد لمن لم يشاركوا في 2016 خاصة الذين لم يبلغوا آنذاك سن التصويت لتفضيل البقاء، طبعا يعقد من كل هذا أن النسبة الغالبة من الراغبين في الخروج لا تؤيد عقد استفتاء جديد، وعموماً جاء التصويت على هذا البديل أيضاً بالرفض، وفي هذا الصدد لعلي أرى أن النواب أو أغلبيتهم انحازت لفكرة ألا تبدو بلادهم أقل نضجاً، وانحازوا لحقهم النيابي، وألا يستمر اللجوء المتواصل للديموقراطية المباشرة التي يمثلها الاستفتاء.
فعلى هامش هذا النقاش، كان هناك طرح آخر معقد فيما يتعلق بحيثيات الديموقراطية المباشرة التي يمثلها الاستفتاء، وحيثيات الديموقراطية البرلمانية التي تخوض الآن إدارة الخروج، وتعتبر أن القرار يجب أن يكون قرارها هي ولا ينبغي العودة للشعب مرة أخرى.
بريطانيا إذاً حائرة ومنقسمة، وفي حقيقة الأمر أنها كانت دوماً منقسمة بصدد العلاقة مع أوروبا، وعلينا ألا ننسى أنها لم تنضم للسوق الأوروبية في بدايتها وكانت تاريخياً تتحدث عن القارة وعن نفسها ككيان منفصل ومختلف، وكانت التحليلات آنذاك تتحدث عن بقايا إرث الامبراطورية وعن العنجهية، ثم جاء الانضمام في وسط مناخ واقعي أدرك تغير الظروف الدولية والإقليمية، وأن المراهنة على العزلة عن القارة الأوروبية – وكأنها ترتب لاستمرار شراكة خاصة عبر الأطلنطي مع الولايات المتحدة – تحتاج لمراجعة لأنها ستنتهى أي هذه الشراكة والتأثير إلى ما يشبه علاقة التبعية، عموماً تم تجاوز كل هذا وانضمت بريطانيا للاتحاد الأوروبي ولكن بقي جزء من الشعب متحفظاً ومعادياً دوماً للارتباط مع أوروبا حتى وصلت الأمور إلى ما يحدث الآن، وفي الواقع أن الأزمة الراهنة تثير تساؤلات وتأملات كثيرة كاشفة لأحوال بريطانيا وكذا عالمنا المعقد الذي لا يتوقف عن التحول.
أولها أن بلداً كبريطانيا بكل تاريخها الديموقراطي والسياسي العريق، وبكل سمعتها الكبيرة حول الخبرة والدهاء السياسي منقسمة على نفسها بشكل ربما يفوق بلداناً غير متقدمة وعانت أزمات هوية أو انقسام سياسي، وأن تنقسم الشعوب بين التوجهات السياسية أمر ليس غريباً، أليس هذا حال أغلب الديموقراطيات في العالم، بين الاتجاهات اليسارية واليمينية، ولكن الصعب هو الانقسام حول الهوية، وهو انقسام يتعلق بكل خيارات المستقبل البريطاني كما أن الأزمة أيضا كاشفة ثانياً عن غياب القيادة السياسية القوية القادرة على قيادة المجتمع البريطاني خلال الأزمات في مجتمع أفرز تاريخياً قيادات كبرى خلال المحن التي مر بها، وهو ما يغيب الآن لأسباب عدة ربما مثل باقي مجتمعات العالم.
وثالثها سؤال لا بد أن يطرح نفسه عن ما إذا كانت بريطانيا ما زالت أحد أطراف النظام الدولي الكبرى، الموضوعية هنا أن نتذكر أن المملكة المتحدة هي الامبراطورية الوحيدة في التاريخ التي تراجعت ولم تنهار مثل الامبراطوريات القديمة وكذا امبراطوريات العصور الوسطى وآخرها العثمانية، فكل هذه الامبراطوريات انتهت بحروب هزمت فيها أو انهارت من الداخل، ما عدا بريطانيا التي كانت ربما أكبر الامبراطوريات في التاريخ، وانتصرت في آخر الحروب الكبرى أي العالمية الثانية، صحيح ضمن جبهة واسعة، ولكنها لم تنهر، ثم بدأت في التراجع التدريجي خاصة بعد حرب السويس، حتى تقلصت كل المستعمرات تقريباً من جيوب صغيرة للغاية، ولم تكن في خلال سنوات الامبراطورية الأخيرة الأغنى اقتصادياً، ولكنها عبرت معاناة الحرب العالمية الثانية وفقد المستعمرات وكانت معظم الوقت ضمن الاقتصاديات العشر الأولى في العالم، وما زالت كذلك، وفي معظم الوقت كانت الأكثر تأثيراً في الشريك الأميركي والحليف الأول في معركة كسب الحرب الباردة.
كل هذا صحيح، ولكن العبقرية البريطانية التي يجب الاعتراف بها – على رغم شيطانيتها ودورها البغيض والمستمر في معاناة منطقتنا بشكل خاص – إحدى سماتها الرئيسة فكرة التدرج. تدرجت في بناء أعرق الديموقراطيات وأكثرها استقرارا من دون ثورات، وتدرجت في التوسع الاستعماري، ثم تدرجت في خسارة المستعمرات وتراجع المكانة الدولية منذ حرب السويس 1956، ولكنها لم تختف قط عن ساحة التأثير الدولي، والكل يعرف دورها المهم في التنظيم والشؤون الدولية عموماً، ولكنها كانت تواصل التراجع حتي الأزمة الراهنة، ولكن بمنطقها وفلسفتها.. أي التدرج.
البريكسيت أو الأزمة الراهنة وبنتائجها الاقتصادية لو استمر البطء والتخبط البريطاني في إدارة صعوبتها قد يكون أكبر معجل لتراجع أسرع، صحيح أن هناك بعض الخلافات حول تقدير حجم خسائر الاقتصاد البريطاني القادمة، ولكن من المؤكد أن الأمور لن تكون سهلة، وحتى لو انتهى هذا الانقسام الداخلي وتم قبول الاستمرار وتأجيل الخروج فإن مزيداً من تآكل الهيبة البريطانية قد يكون قد حدث، أما الخروج فبالقطع سيكون مكلفاً سياسياً واقتصادياً.
مقال للحياة