كتاب عربموضوعات رئيسية
هل قمة كوالالمبور هي بداية الفِراق بين العروبة والإسلام؟
هل قمة كوالالمبور هي بداية الفِراق بين العروبة والإسلام؟.. وهل سيُصلِح مهاتير محمد ما أفسدهُ الدهر؟.. وألم يكُن من الأفضل الدعوة إلى ويستفاليا إسلامية؟
لم يحصل أن انعقد مؤتمرا إسلاميا منذ تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969 بعد حريق الأقصى (التي أصبحت لاحقا منظمة التعاون الإسلامي)، إلا تحت إشراف هذه المنظمة التي مقرُّها في مدينة جدّة بالمملكة العربية السعودية، إلى حين أن بادر رئيس وزراء ماليزيا السيد مهاتير محمد ودعا إلى قمة إسلامية مُصغّرة في عاصمة بلاده كوالالمبور يوم 19 كانون أول 2019..
لم يحضر هذه القمة سوى زعماء أربع دول وهم تركيا وإيران ودولة قطَر إضافة إلى ماليزيا، فضلا عن حضور 450 شخصية من المفكرين والعلماء والمثقفين من الدول الإسلامية، كما تناقلت وكالات الأنباء..
السعودية رفضت الحضور لأنها اعتبرت المسألة وكأنها سحبَا للبساط من تحت أقدامها، من طرف مهاتير مُحمد وداعميه لِعقد هذه القمة، التي جادلت السعودية بأنها كان يجب ان تُعقَد تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي فقط..
غابت السعودية وغابت معها كافة الزعامات العربية باستثناء قطَر، وبدا الأمر وكأنه بداية فراق بين العروبة من طرف وبين الإسلام من طرف آخر.. فانعقاد هذه القمة من خارج إطار منظمة التعاون الإسلامي وغياب القيادات العربية، سيبدو وكأنه تقسيما لهذه المنظمة إلى محورين: محور إسلامي عربي، ومحور إسلامي غير عربي.. وهذا سيرسخ من الخلافات الموجودة أساسا داخل هذه المنظمة..
**
أهداف هذا المؤتمر، كما شرحها مهاتير محمد، لن تُغيِّر باعتقادي من واقع المسلمين بمثقال ذرة.. ولن تُقدِّم شيئا جديدا لشعب فلسطين وقضيته، ولا لِمسلمي الروهينغا أو الإيغور، ولا لقضية كشمير ومسلميها، او غيرهم.. ولا للحروب في داخل الدول الإسلامية، ولا بينها، ولا لِمشاكل المسلمين الذين يَهجرون بلدانهم إلى بُلدان الغرب بسبب الحروب والفقر والجوع والبطالة والقمع والقهر والاستبداد.. إنها مُتاجرة إعلامية جديدة بقضية فلسطين وقضايا المسلمين لا أكثر ..
فالعيد من الدول الإسلامية، تربطها بإسرائيل علاقات متينة جدا، ومنها دولٌ عربية، وكذلك بالصين، ومصالحها السياسة أهم من مائة قُدس ومسجد أقصى وفلسطين، ومن ملايين الروهينغا والإيغور والكشميريين، فعلى من هذا التمثيل؟.
تحمّس البعض للدفاع عن مسلمي الإيغور في الصين، ولكن سرعان ما بلعوا ألسنتهم حتى لا يُغضِبوا الصين.. بعض المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وبعض الدول الغربية، دافعوا عن الروهينغا وعن الإيغور أكثر من كافة الدول الإسلامية..
شعوب الدول العربية والإسلامية تدرك أن حكوماتها عاجزة عن تقديم أي شيء عملي وملموس لقضايا المسلمين، خارج إطار الخطابات والبيانات والقرارات التي لا تساوي حِبرُها..
إسرائيل أعلنت أن القدس عاصمتها الأبدية، فماذا فعلت الدول الإسلامية سوى إصدار البيانات والقرارات والتصريحات؟. الرئيس ترامب اعترف بأن القُدس عاصمة إسرائيل الأبدية ونقلَ سفارة بلاده إليها، فماذا فعلت الدول الإسلامية سوى إصدار البيانات؟.
إسرائيل أعلنت أن الجولان السوري المحتل هو أرض إسرائيلية أبدية واعترف الرئيس ترامب بذلك، فماذا فعلت الدول الإسلامية أكثر من إصدار البيانات؟.
حينما سألوا الرئيس ترامب إن كان سيخشى ردود فعل الدول الإسلامية بِنقلِ سفارة بلاده للقدس، كان جوابهُ، لن يكون هناك ردود فعل.. وحينما سألوا ذات مرّة “شيمون بيريز” رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، إن كان يخشى رد الفعل العربي إزاء ما يفعلهُ بالشعب الفلسطيني وبالأراضي الفلسطينية، أجابهم، لو أنه يثق بأن العرب سينفذون واحد بالمليون من قراراتهم لوافق حالا على مبادرة السلام العربية ..
**
مهاتير مُحمد لن يتمكن من إصلاح شيءٍ مما أفسدهُ دهرا طويلا من عُمر الإسلام والمسلمين..
1400 سنة على مرور معارك الجَمَل وصفِّين وكربلاء، وما زالت آثار هذه المعارك النفسية والعاطفية والثقافية والروحية تعيش في قلوب المسلمين وكأنها حصلت منذ أربع سنوات، وتُقسِّم بينهم إلى (سنُّة وشيعة) وتُعمِّق ثقافة الكراهية..
حينما حصلت إشكالات ” الحج” بين السعودية وإيران قبل موسم الحج عام 2016 ، استمعنا لتلك التراشقات الإعلامية المؤسفة بين الطرفين.. فقد خرج حينها مفتي السعودية ليقول لصحيفة “مكّة” عن شعبِ إيران : (يجب أن نفهم أن هؤلاء ليسوا مسلمين، فهم أبناء المجوس، وعداؤهم مع المسلمين أمر قديم وتحديدا مع أهل السنة والجماعة)..
بينما وصف الإمام الخامئني، السعودية، برسالة الحج التي وجهها للحجاج الإيرانيين بمناسبة الحج في 5 أيلول 2016 ، وصفها بـ (الشجرة الملعونة ، وأنهم متلاعبون سياسيون لا يعرفون الله، وأنهم حكاما عديمي دينٍ وضمير …) الخ الرسالة.. فكيف يمكن الجمع بين هؤلاء المسلمين؟.
بل حتى داخل أهل ” السنة والجماعة” هناك اختلاف على
تعريف من هُم ” أهل السنة والجماعة” ؟. وهذا كان عنوان مؤتمر “غروزني” المنعقد في الشيشان في 25 آب 2016 ، تحت عنوان ” من هُم أهل السُنة والجماعة؟” وقد تم استثناء ” الوهابية” من إدراجها تحت مُسمّى أهل السنة والجماعة، وحصرَ ذلك بـ ” الأشاعرة والماتريدية وأتباع المذاهب الأربعة والصوفية”.. الأمر الذي تسبب بردود أفعال غاضبة في العالم الإسلامي من طرف رجال دين عديدون ومن طرف أصحاب الدعوات السلفية.. وحتى من طرف علماء الأزهر ، ومن طرف جماعات الأخوان المسلمين، وانبرى البعض لاعتبار “الأشاعرة والماتريدية” أهل ضلالٍ وانحراف وطالبوا بتعريتهم وإلقاء الضوء على تاريخهم وتعرية رموزهم قبل فوات الأوان .. إذا هكذا هو الحال ضمن أهل السنة والجماعة، يتهمون بعضهم بالضلال والانحراف..
**
السعودية وإيران هما الدولتان الوحيدتان في العالم الإسلامي اللتان تقولان أن حُكمهما يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية.. إحداهما بالنسخة ” السنية” والأخرى بالنسخة ” الشيعية” ويعتقدان أن الإسلام هو دين ودولة بآنٍ معا.. وهذا غير صحيح ومُختَلفٌ عليه جدا ( والحديث عن ذلك يطول ويحتاج إلى بحث طويل، وكُتِب عنه الكثير) ولكن باختصار إن أوّل من طرح التلازم بين الدين والدولة بالإسلام كان ” ابن تيمية” بعد أكثر من ستمائة عام على ظهور الإسلام، ثم تلميذه “ابن القيِّم” ، ثم تلاهُم بعض المشايخ كما محمد بن عبد الوهاب، وفي القرن العشرين جاء أبو الأعلى المودودي، مؤسس الحركة الإسلامية في لاهور، وتأثر به لاحقا منظِّرو الأخوان المسلمون كما حسن البنّا والسيد قُطُب.. وهكذا إلى أن جاءت الثورة الإسلامية في إيران ورفعت شعار الإسلام ” دين ودولة” ودعمت كافة الحركات والأحزاب الإسلامية على الساحتين العربية والإسلامية، بما فيها حركات الأخوان المسلمين.. وأطلقت إيران على ذلك اسم ( الصحوة الإسلامية) ، وأسست لذلك مؤسسة تُدعى (مؤسسة الصحوة الإسلامية)، تنظم مؤتمرات إسلامية بشكل دائم.. وأعتقدُ لسنا بحاجة لصحوات إسلامية، وإنما شعوبنا العربية والإسلامية بحاجة إلى صحوات عَلمانية ديمقراطية وحرية تعبير وحقوق إنسان وتعددية حزبية وسياسية ( من شتّى الاتجاهات اليسارية والليبرالية والعَلمانية والقومية والإسلامية واليمينية والوسطية.. الخ) وامتلاك الشعوب للقرار والإرادة، والتوقف عن تهميشها، وتداول على السلطة من خلال صناديق الاقتراع، ودول قانون ومؤسسات وبرلمانات منتخبة، وفصل بين السلطات.. والابتعاد عن تقديس الأفراد، أو إضفاء العصمة عليهم.. لا أحدا معصوما بعد الأنبياء، ولا من قُدسية لمخلوق بعدهم..
في القرآن الكريم لا يوجدُ نصّا جليا وواضحا عن ” الدولة” أو ” نظام الحُكم”، بل قال الرسول(ص) للمسلمين ” أنتم أعلمُ بشؤون دنياكم” وهذا يعني التفريق بين الدين والدولة، أو بين الدين والسُلطة، لأن السُلطة والدولة هي مسائل دنيوية متغيرة ومتطورة باستمرار مع تغيُّر وتطور الحياة، وليست مُسلّمات دينية ثابتة وأبدية..
**
مشكلة المسلمين، أو بعضهم، تكمن في اعتبار الإسلام دين ودولة بآن معا، وعدم الفصل بينهما.. ولذا كان الأجدر بالسيد مهاتير محمد الدعوة لِعقد مؤتمر إسلامي، على غرار مؤتمر ” ويستفاليا” الأوروبي في ألمانيا عام 1648 الذي وضع حدّا لكافة الحروب الأوروبية (التي تشبهها حروب المسلمين).. ويُؤسس للفصل بين الدين والدولة..
ففي فرنسا لوحدها كانت هناك ثمانية حروب بين عامي 1560 و 1598 .. تخللتها مذابح شنيعة ..
وفي الإمبراطورية الرومانية المقدسة (معظم أراضي ألمانيا اليوم) كانت هناك حرب الثلاثين عاما بين عامي 1618 و 1648 .. بين البروتستانت والكاثوليك..
وكانت هناك حرب الثمانين عاما بين أسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتحدة (هولندا وبلجيكا واللوكسمبرغ) ..
وقبل كل ذلك كانت هناك حرب المائة عام بين انكلترا وفرنسا والتي دامت 116 سنة من عام 1337 وحتى 1453 ، ولكن يسمونها حرب المائة عام، حيث إدّعى الملوك الإنكليز حقهم بالعرش الفرنسي وكافحوا من أجله، وانتهت بطرد الإنكليز من فرنسا ..
كل تلك الحروب وضعوا حدّا لها في اتفاقية أو صِلح ” ويستفاليا” ، الذي أسّس لفصل الدين عن الدولة والتحرر من سُلطة رجال الدين، وكانت الّلبِنة الأولى التي أسّستْ للنهج العَلماني في أوروبا.. وها هي أوروبا أين والمسلمين أين!.
بعد أربعين عاما من تطبيق الشريعة في إيران، وحوالي 87 عاما من تطبيقها في السعودية (ومن ضمنها النقاب والحجاب والعباءة والبرقع والشودير والمْلاية، والتمييز بين الرجُل والمرأة .. الخ) ، فهل نجحا في خلق نموذج من الحُكم يُقتدى به؟. وماذا كانت الرسالة التنويرية الحضارية الحداثية لأيٍّ منهما للعالمين العربي والإسلامي؟.. المزيد من الصراعات والتفرقة والتشرذم والتنافس والحروب بالوكالة، والتي ضحيتها دماء المسلمين..
**
العالمين العربي والإسلامي( وكما أشرتُ في إحدى مقالاتي بالماضي) يحتاجان إلى:
أولا: استلهام مبادئ ويستفاليا لوضعِ حدّ لكافة الصراعات الدينية في العالم الإسلامي، وتطبيق (العَلمانية الإيمانية) التي تحترم الأديان، ولكن تفصل بين الدين والحكومة أو الدولة.. فالدولة ليس لها دِينا، ولا تَفرضُ دينا على أحد، ويجب أن يتساوى فيها كافة المواطنين مساواة كاملة على أساس المواطَنة بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم وأجناسهم وغير ذلك .. فالدين دوما لله والوطن للجميع..
وثانيا: يحتاجان إلى استلهام مبادئ وثيقة، أو اتفاقية هلسنكي لعام 1975، المنبثقة عن مؤتمر هلسنكي الأوروبي، الذي ضمّ الكتلتين الشرقية والغربية إضافة للولايات المتحدة وكندا، وذلك في ذروة الحرب الباردة.
وقد حددت الوثيقة المبادئ التالية أساساً لإقامة علاقات جديدة في القارة الأوربية وهي: المساواة في السيادة، واحترام حقوق السيادة الوطنية لكل دولة، وحصانة حدودها ووحدة أراضيها وسلامتها، وحل الخلافات بالطرق السلمية وعدم استخدام القوة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية بما فيها حرية التفكير والمعتقدات، والمساواة بين الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وترسيخ مظاهر التعاون بين الدول وتنفيذ الالتزامات والتعهدات الدولية بما ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة وأحكام القانون الدولي.
وثالثا: يحتاجان إلى استلهام مبدأ الديمقراطية التمثيلية التي نشأت في أوروبا من خلال الأفكار والمؤسسات التي ظهرت في العصور الأوروبية الوسطى، وعصر الإصلاح، وعصر التنوير، ومبادئ الثورتين الفرنسية والأمريكية، ثم تطورت إلى هذا المستوى الراقي الذي تعيشه شعوب وبُلدان الغرب اليوم ..
ورابعا: يحتاجان إلى احترام مبادئ الصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، كما مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، والعهدين الدوليين حول الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عام 1966، ومبادئ مؤتمر طهران لحقوق الإنسان عام 1968، ومبادئ مؤتمر فيينا حول حقوق الإنسان لعام 1993 ..
في حقبة من التاريخ انتشر شعاع الحضارة إلى بِقاع العالم من الأمصار والحواضر العربية والإسلامية، واليوم من هذه الأمصار والحواضر ينتشر التعصب والتطرف والكراهية والجهل والتخلف..