تعقد الحكومة الجزائرية اليوم – الأحد أول اجتماعاتها تحت رئاسة الرئيس عبد المجيد تبون وسط مشاعر شعبية، تكاد تكون متناقضة، تعيشها الجماهير منذ الإعلان عن تشكيلة الحكومة مساء الخميس الماضي، ومن هنا اخترت عنوان “قيصرية” إشارة إلى التعبير المستعمل في حالات الولادة المتعسّرة.
وتتكامل ردود الفعل السلبية مع مشاعر الترحيب بالحكومة الجديدة، فقد اختلطت التكهنات بالشكوك والتوقعات بالآمال المجهضة، وكان أول السلبيات التي تم تسجيلها التسرع بتحديد الساعة السابعة لإعلان تشكيلة الحكومة، فالذي حدث هو أن الإعلان الرسمي تم بعد حوالي ساعة ونصف من الترقب، مما أعطى الشعور بأن القائمة النهائية لم تكن جاهزة إلا في اللحظات الأخيرة، وهو ما استنتجه الكثيرون من تعثر الناطق الرسمي في تلاوة بعض الأسماء، في حين أنه إعلامي قدير كان يتلو نشرة الأخبار المتلفزة في السبعينيات بعد أن يحفظها عن ظهر قلب، فلم نكن عرفنا بعدُ النص المكتوب على شاشة الكاميرا ( Téléprompteur) .
وكاد ردّ الفعلي السلبي يمحو أثر إنجازٍ هو الأول من نوعه في الجزائر، حيث أعلنت تشكيلة الحكومة رسميا ومباشرة من رئاسة الجمهورية، بدلا مما كان يحدث في السنوات الأخيرة حيث، كانت أسماء الوزراء تسرب تباعا عبر قناة تلفزة خاصة، بعد أن تكون أسماء كثيرة قد تداولتها الألسن هنا وهناك.
هذه المرة يمكن القول إن معظم الأسماء لم تكن معروفة في الشارع وربما أمكن القول أنه لم يكن هنا اسم واحد يمكن أن يقطع أحد بوجوده عضوا في الحكومة، وهذا إنجاز له أهميته حتى ولو كان هناك من قال بأن القرار النهائي بالنسبة للبعض اتخذ في آخر لحظة، كما سبق أن أشرت، وهو ما ليس عيبا في حد ذاته، وتردد أن بعض الوزراء فوجئوا باختيارهم للمنصب.
وكان في طليعة الأسماء التي رجبت بها الجماهير من بين الوزراء السبعة العائدين وزير العدل بلقاسم زغماتي، الذي ارتبط اسمه بالصرامة في التعامل مع ملفات الفساد.
وكان رد الفعلي السلبي الثاني يتعلق بعدد أعضاء الحكومة، فـ39 وزيرا وكاتب دولة هو عدد كبير في بلد يعاني من وضعية اقتصادية ليست في أحسن حالاتها، وربما كان التبرير الذي تناقلته الأفواه هو أن هذه الحكومة تحمل طابع “الترضية” التي تفرضها مرحلة لا يمكن أن تعتبر مرحلة عادية هادئة، وربما بدا هذا من النسبة العددية للوزراء حسب النظرة الجغرافية.
من هنا تبدو خلفية الانطباع بأنه كانت هناك إرادة امتصاص حالات التنافر التي عرفتها البلاد، وبغض النظر عن أنها كانت محلية أو فئوية أو انتقائية التوجه، وحتى بوجود وزراء كانت مواقف بعضهم في الأسابيع الماضية رافضة تماما للانتخابات الرئاسية، مُشككة علنيا وعبر مواقع التواصل الاجتماعي في جدواها، وهو ما يُفسر اليوم موقف الصحافة الفرنسية في الأسابيع الماضية من الانتخابات، بل والفتور الذي تميز به موقف الرئيس الفرنسي إثر الإعلان عن انتخاب عبد المجيد تبون، وقبل ان يتدارك الأمر ويدرك حقائق الأمور، ويتأكد بأن مصادره لم تكن كلها موضوعية ونزيهة.
وهكذا، فُهِمت تلك التعيينات بأنها محاولة أخيرة لنزع فتيل التظاهرات المضادة التي ما زالت تحتشد في بعض الشوارع بالعاصمة الجزائرية، والتي أشرت إلى خلفياتها في أحاديث سابقة.
لكن ذلك ارتبط بإنشاء مناصب وزارية بشكل بدا مسرحيا، كوجود كاتب للدولة للنشاط السينيمائي، وهو منصب لا تعرفه البلدان ذات النشاط السينيمائي الهائل مثل أمريكا مصر وربما الهند، وربما كان سبب النقد الرئيسي هو الوزير نفسه، الذي نُقل عنه التناقض في تعليقاته “الفيس بوكية” مع التوجهات الدستورية لمسيرة البلاد، وهو ما سجل عن وزير آخر كان قد كتب على موقعه في “الفيس بوك” : “الأنظمة الفاسدة تُغيَّر ولا تتغير، وأي تغيير يشترك فيه جزء منها هو مهزلة.”، ورُويَ أنه كان من عناصر حملة اللواء المتقاعد الغديري.
وهكذا نجد في الحكومة من كان متناقضا مع الأسلوب الذي أنشئت به وقامت عليه، وسنجد من التعليقات الطريفة في “الفيس بوك”: لم أفهم، يسبّ الأكل والطباخ والمائدة ولكنه يختطف الصحن من النادل ويكاد يتلذذ مع أول لقمة.
ويجيب تعليق آخر: أليس من حق من قاطع المطبخ وندد بالطباخ أن يجلس إلى المائدة.
وترد قارئة: “المُقاطع يحق له ذلك لكن بعد الاعتذار والتوسل بالعفو ثم القيام بالمساعدة في تحضير المائدة، ويأكل وعيناه بالأرض مخزيا من سوء فعله كونه هوّل العائلة وأربكها”. ؟
والشعور العام هو أن هذا الأسلوب الذي استعمل كان هو نفسه الذي استعمله الرئيس السابق مع عدد من أشرس معارضيه “الإيديولوجيين”، فقد أشركهم في التشكيلة الوزارية مما جعل مواقفهم تتغير بـ180 درجة، وكانت من بينهم من أصبحت تتغنى بحكمة الرئيس وبسداد رأيه.
لكن المشكل في هذا الأسلوب هو أن كثرا ممن تمت ترضيتهم بالمنصب الوزاري في الماضي أصبحوا عبر ممارساتهم مضغة الأفواه في الشارع السياسي، وكان وجودهم في السلطة عبئا على نظام الحكم، ومن أهم أسباب ثورة الشارع على النظام بأكمله، ومنهم اليوم من هم في سجن “الحراش”.
وهنا يرتفع التساؤل: ماذا لو استمرت التظاهرات ؟، وحتى ولو أصبح واضحا للجميع أنها لا تمثل الإرادة الجماعية للشعب الجزائري، وبأن وراءها بعض من لا يزال يبحث عن تموقع جديد.
وهنا يقول أنيس جمعة: “تأثير 10 آلاف شخص منظمين ومتحدين في مسار السياسة والأحداث… يفوق تأثير مليون شخص غير منظمين يكتفون بالكتابة على الفايسبوك !من هنا نفهم الكثير من الأحداث في أيامنا”.
وفي هذا الجوّ كله يمكن وضع عمليات إطلاق سراح المعتقلين في إطار ما سُمّي “جرائم رأي”، وهي لم تكن كذلك اللهم إلا إذا كان بذر عوامل التفرقة واستعداء جنود الجيش ضد قياداتهم يمكن أن يعتبر “رأيا”، وكان من بين من أطلق سراحهم المجاهد الأخضر بو رقعة، وبلغ عدد الجميع نحو 75 عبر ولايات الجمهورية كلها، ولم يصدر عن أي منهم تصريح بسوء معاملة من أي نوع كان، وكانت النسبة الأكبر من العاصمة الجزائرية.
وأنا شخصيا أعتقد أن توقيت الإفراج لم يكن موفقا، إذ أنه رُبط في الأذهان بالإعلان عن تشكيلة الحكومة لأنه حدث في يوم إعلانها، في حين كان المنطق أن يتم الإفراج في آخر أيام السنة الماضية، أي قبل ثلاثة أيام من إعلان التشكيلة الحكومية، ليكون وجودهم بين أهليهم في مطلع العام الجديد، وبغض النظر عن كل التفاصيل، عامل بهجة إنسانية لا علاقة لها بالمنطلق السياسي.
وتميزت الحكومة الجديدة بوجود عدد من أساتذة الجامعات لعله يفوق عدد كل من عينوا في السنوات الماضية، وأولهم الوزير الأول نفسه، والذي يتميز عن بقية الوزراء بأن له تجربة سابقة في دواليب الدولة على أعلى المستويات، وهو ما يعني أنه سيستطيع نقل تجربته إلى الأساتذة الذين لم يعرفوا التعقيدات التي تتميز بها مقاليد الأمور في إدارة تعاني من سلبيات المرحلة الماضية، وخصوصا وجامعاتنا ليست كلها في المستوى العالي الذي يجعلنا ننتظر منها الكثير في الوقت الحالي.
وفي كل هذا يبرز أهم العناصر السلبية بالنسبة للساحة السياسية، وهو الغياب شبه الكامل للتشكيلات الحزبية، وبوجه خاص أهم شرائح التيار الإسلامي، الذي كانت مواقف بعض قياداته في الأسابيع السابقة منسجمة مع توجهات التيارات اللائكية، ولكن تفتت القيادات جعلها في موقع ضعف حرمها مما أمكن لحلفائها انتزاعه، ومن هنا كان تعليق حسان زاهر الذكي من أن: “الطرف الضاغط على السلطة، كان من لون واحد، ولديهم تكتيك واحد معروف، المعارضة بالنهار في الشارع، و”البزنسة” بالليل داخل الكواليس”.
ويقول تعليق آخر: “ادعى منتمون لتيار الأصالة الوطنية أنهم يدعمون اختيار الشعب فتحالفوا مع الخصوم الاستراتيجيين .. واليوم .. قد يتسولون الفتات فلا يجدونها.”
ويبقى أن اليقين العام هو أن الجزائر نجحت في اجتياز واحدة من أخطر المراحل التي عاشتها منذ استرجاع الاستقلال، ومهما كانت الجوانب السلبية فإن أهم الإيجابيات هو الانتقال إلى وضعية الاستقرار الدستوري بسلمية وبسلاسة وبتفهم جماهيري، حتى من قبل الممتعضين والساخطين.
وكل الوطنيين يرددون: رحم الله الفريق أحمد قايد صالح
دكتور محيي الدين عميمور-مفكر ووزير اعلام جزائري سابق والمقال من رأي اليوم