نذ ان اقدم الرئيس ترامب على اغتيال المرحوم قاسم سليماني وبقرار فردي وبالتنسيق مع إسرائيل، والمنطقة تجلس على برميل بارود. وفي الوقت الذي يشعر فيه قادة الطرفين، اميركا وإسرائيل، بالنشوة والفرح فان قادة إيران يشعرون بالألم على فقدان قائد عمل الكثير من اجل ان يحقق لهم ولدولتهم أسباب القوة والقدرة على المواجهة، ويشعرون بالإهانة لهذا الاستهداف والخرق، وكذلك فانهم، ومعهم محور المقاومة، يشعرون بضرورة اتخاذ ما يلزم لإعادة الاعتبار لهم، ويتوعدون الولايات المتحدة برد غير مسبوق. من ناحية اخرى فان اغلب المحللين يعتبرون ان المنطقة الأكثر رخاوة والمرشحة لكي تشهد مثل هذه المواجهة هي العراق. وما يساعد على هذا الاعتقاد هو ان العراق اليوم، بل ومنذ ان اقدمت الولايات المتحدة على احتلاله وتدميره واستباحته، وتسهيل الاستباحة لأطراف خارجية أخرى و متعددة، اصبح لا حول له ولا قوة، وتحول إلى كرة صغيرة يتقاذفها لاعبين مختلفين و في اتجاهات مختلفة، ويحكم من قبل (سياسين) فاشلين وتابعين لقوى خارجية وغير قادرين على التعامل مع الأزمات التي تواجهه، كبيرة كانت أم صغيرة.
والحالة تكون اصعب إذا كان ما يتهدد العراق اليوم مخاطر وجودية ومصيرية تمس بقاءه كدولة وككيان موحد. ومما يزيد في الطين بلة ان (السياسين العراقيين) بأدائهم الفاشل يعمقون الازمة يوما بعد يوم، مما يظهر البلاد وكأنها تسير بخطى سريعة نحو التقسيم. وما يدعم هذه الحالة وجود مظاهر تعزز حتمية هذا المصير المؤلم، مثل وجود مليشيات مسلحة فرضت بتصرفاتها وبعدم احترامها للدولة المركزية تقسيما واقعيا في العراق، والأخطر ان اغلب هذه المليشيات المسلحة مرتبطة وتابعة للخارج اكثر من ارتباطها بالعراق، و لا تمتلك اجندات عراقية وطنية، (البيشمركة في الشمال والحشد الشعبي في الوسط والجنوب، مع تواجد في المناطق الغربية، يقابلهم قوات صحوات في هذه المناطق ايضا). يضاف الى ذلك التهميش الكبير الذي تعرض ويتعرض له الجيش العراقي منذ عام 2003 ولحد اللحظة (باستثناء الفترة التي تمكن فيها من تحرير المحافظات الغربية من تنظيم داعش الإرهابي والتي أظهرت إمكانية وقدرة قادته الوطنيين على اعادة الاعتبار لهذه المؤسسة العريقة، مما اثار حفيظة أطراف مختلفة داخلية واقليمية، سارعت الى اضعافه وتشتيت قادته و قدراته كي لا يشكل عنصر قوة يعيد للعراق مكانته بين دول المنطقة وينهي دور المليشيات المسلحة، ونجحوا في ذلك.)
من ناحية اخرى فان المواجهة التي يحاول رئيس الوزراء العراقي المستقيل ان يقودها ضد الولايات المتحدة، التي أتت به وبكل الأحزاب الحاكمة في العراق منذ الاحتلال، لا يمكن تفسيرها سوى انها محاولة (ملتوية) لتبييض صورته على حساب وحدة الأراضي العراقية بعد انتفاضة الشباب ضد الفساد والطائفية والمحاصصة والتي أجبرته على الاستقالة، وبعد ان فشل في ان يبني على النصر الذي تحقق على عصابات داعش. وبدلًا عن ذلك فلقد ساهم في تهميش الجيش وفي تعاظم الفساد بصورة اكبر وحماية الفاسدين، وبدات خلايا عصابات داعش تطل برأسها من جديد. كما أصبحت الدولة بدون احتياطي يذكر من العملات الصعبة، و مهددة بان تعلن افلاسها اذا ما توقف تصدير النفط. أضف الى ذلك فشل رئيس الوزراء المستقيل، رغم تبريراته الواهية، في ان يتصدى لما قامت به الولايات المتحدة من (خرق للسيادة العراقية)، التي هي أصلا غير موجودة منذ بداية الاحتلال، حيث نجده يلجا الى البرلمان طالبا منه ان ينهي العلاقة مع اميركا الدولة المحتلة والمتحكمة الثانية بالعراق. (علمًا انه قبل ذلك اعترف، وبعد أيام من حادثة الهجوم على مقرات الحشد الشعبي على الحدود العراقية- السورية، اعترف بانه تبلغ بالهجوم قبل حدوثه من قبل وزير الدفاع الامريكي!!!! و ليس من نائب الرئيس) وانه، حسب قوله، فشل في ثني الإدارة الأمريكية عن هذا العمل التي أبلغته ان القرار قد اتخذ ولا رجعة عنه. وكان الأجدر به ان يصارح به العراقيين منذ البداية.
من ناحية اخرى، وحيث انه يدعي بانه خبير اقتصادي، كان عليه ان يصارح العراقيين، وبالذات اعضاء البرلمان، قبل ان يطلب منهم إصدار قرار بإخراج القوات الأمريكية، بالوضع المالي العراقي وقدرة الولايات المتحدة على الإضرار بالاقتصاد العراقي ومن خلال العقوبات اذا ما ارادت ذلك. بالإضافة الى الإجراءات المدمرة الأخطر التي يمكن ان تقوم بها الولايات المتحدة لتفتيت العراق وبدعم من إسرائيل. وخير دليل على ذلك ما بدا يظهر في الصحف و وسائل الإعلام الأمريكية والاسرائيلية المهمة عن ضرورة دعم انفصال كردستان العراق ودعم (مطالبات) ابناء المحافظات الغربية للانفصال عن العراق ايضا. واذا كان السيد عبد المهدي يعلم بهذه الأمور ويحاول ان يستغلها لبناء مجد شخصي زائف لنفسه فهذه كارثة، واذا كان لا يعلم بهذه المخاطر فهذه كارثة اخرى تضاف الى الكوارث التي حلت بالعراق منذ تسنمه منصب رئيس الوزراء وتمسكه به لحد هذه اللحظة.
طبعًا يجب ان لا يفهم من كلامي باني أدافع عن الوجود والنفوذ بل والاحتلال الامريكي للعراق، الذي عارضته بشدة منذ بدايته ولا ازال . ولكني أقول ان إنهاء هذا الاحتلال والهيمنة يجب ان يتم بصورة ذكية ومدروسة والأهم بعد توفير أسس القوة والسيادة الوطنية العراقية الحقيقية التي يمكن الاعتماد عليها في حالة اللجوء الى مثل هذا الحل. حيث يجب اولا ضمان موقف عراقي موحد وثانيًا ايجاد حل للقواعد العسكرية الأمريكية الكثيرة المنتشرة في العراق، وثالثا ان يضمن العراق نهاية تهديد عصابات داعش للمدن والقصبات العراقية، وينهي تسلط مليشيات الحشد التي تعبث بمصائر الناس في هذه المناطق وتدفعهم دفعًا لكي يكونوا، مرغمين، حواضن للمنظمات الإرهابية. ورابعًا ان يتم محاربة الفساد واصلاح الأمور المالية للعراق وتامين وفرة مالية تمكن الحكومة من إجراء طفرات تنموية تشعر المواطنين بالاطمئنان لمستقبلهم ومستقبل ابناءهم، وأخيرا والأهم هو العمل على بناء جيش عراقي موحد وحصر السلاح بيد الدولة.
مع كل ما قيل أعلاه تبقى هناك ملاحظات يجب التذكير بها و توضيحها، وخاصة للرأي العام العراقي.
أولًا ان القرار الذي اتخذه البرلمان لم يكن قرارا ملزما او جادا بانهاء الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة، وإنما ما صدر هو (تفويض للحكومة) لاتخاذ ما يلزم لإخراج كل القوات الأجنبية من العراق التي تم استدعائها بعد احتلال داعش لاراضي عراقية عام 2014. علمًا بان الولايات المتحدة رفضت قرار البرلمان هذا وقالت بصراحة انها لن تنسحب، وكذلك فعل اقليم كردستان الذي أعلن انه لن يلتزم بالقرار، وزاد على ذلك بان دعا القوات الأمريكية ان تأتي وتستقر في القواعد التي تمتلكها في الإقليم.
ثانيا ان العراق الان هو المصدر الأهم للعملة الصعبة لإيران وبالتالي فلا يمكن للأخيرة ان تضحي به وتجعله يخضع لعقوبات تحرمها من هذا المصدر. أضف إلى ذلك فان العراق يمكن ان يلعب دور الوسيط بين إيران والولايات المتحدة في حال تعقدت الأمور والعلاقة اكثر بين إيران والولايات المتحدة. وهذا الوقت قد يأتي اذا ما نجحت عملية عزل ترامب، او إذا ما أضعفت هذه القضية موقف الرئيس الامريكي اكثر وأكثر. او اذا زادت الاعتراضات من داخل الادارة الأمريكية، وخاصة في الجانب العسكري، بسبب تصرفات الرئيس الطائشة.
ثالثًا هناك تسريبات تقول ان السيد عبد المهدي يتحاور من خلف الكواليس مع الولايات المتحدة بصورة مباشرة وغير مباشرة على أمل ان توافق إدارة ترامب على اعادة ترشيحه كرئيس وزراء للفترة القادمة. رابعًا ان كل هذه الأمور التي يقوم بها رئيس الوزراء المستقيل والرافض لترك المنصب وكذلك التصريحات المتعالية من الأطراف المتحالفة معه والمتضمنة تخوين أطراف عديدة، هي في الجزء الأكبر منها ليس غضبا من الولايات المتحدة (لتجاوزها على السيادة العراقية)، وإنما لغرض إنهاء احتجاجات المتظاهرين السلميين الذين خرجوا منتقدين الفساد والفشل والسياسات الطائفية و المحاصصة والى غير من ذلك من المظاهر التي دمرت العراق منذ بداية الاحتلال ولحد الان، (وازدادت في ظل إدارة عبد المهدي نفسه)، والذين نجحوا (المتظاهرين) في إجباره على الاستقالة. كما اجبرت الأحزاب الحاكمة التي اعتمدت الطائفيةوالعنصرية والمحاصصة الى تغيير الكثير من سياساتها رغمًا عنها، وأضعفت من تسلطها و حرقت مقراتها.
خامسا ان الولايات المتحدة، (وخاصة تحت إدارة ترامب صاحب العقلية الاستغلالية التجارية)، غير مستعدة للتضحية بالعراق الذي عملت المستحيل من اجل احتلاله وضمه الى (إمبراطورياتها) منذ خمسينيات القرن الماضي، ولم تتمكن من ذلك الا بعد ان تعاون معها (ساسة) عراق اليوم في بداية هذا القرن. و هذا الحال لا يمكن ان يتغير طالما ظل العراق ضعيفا و مفككا. والحديث عن استعداد روسي-صيني-إيراني لكي يحل محل الولايات المتحدة إذا ما (أُجبِرَت) على الانسحاب من العراق هو حديث مبكر جدا، اللهم الا إذا استطاعت ايران وجبهة المقاومة من إلحاق هزيمة كبرى بالولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا الأمر يحتاج إلى مناقشة طويلة.
خلاصة القول انه طالما ظل العراق مفككًا و متشرذما بهذه الطريقة، وطالما ظلت الوجوه الحاكمة والمتنفذة نفسها هي السائدة، فسوف لن يكون بالإمكان طرد القوات والنفوذ الامريكي منه، أو أي تواجد اجنبي آخر. كما ان هناك حقيقة أخرى يجب ان لا تغيب عن البال وهي ان من أتت بهم الولايات المتحدة، ورضوا ان يكونوا خانعين لها وقبلوا بالدستور الذي وضعته لهم، ورضوا ان يَحكموا تحت حراب الاحتلال، لن يقوا على الوقوف بوجه الولايات المتحدة واخراجها من العراق. فقط الشعب العراقي الحر والذي عندما يأخذ زمام الأمور بيده هو من يمتلك القدرة على تحرير العراق من كل ما لحق به منذ الاحتلال ولحد الان.
د. سعد ناجي جواد- اكاديمي وكاتب عراقي والمقال لرأي اليوم