تتحرك الأسواق العالمية صعوداً وهبوطاً في تلك اللحظات الفارقة متأثرة بما يتم تداوله من أنباء بخصوص تداعيات فيروس الصين القاتل “كورونا”، حتى صار الأمر أشبه ما يكون بلعبة الكراسي الموسيقية، أو بالتعبير المصري الدارج “يوم فوق ويوم تحت”، والمتحكم الرئيس في المشهد هو مدى التقدم في إيجاد علاج للوباء والسيطرة عليه، في ظل توقعات قاتمة للنمو الاقتصادي، والطلب النفطي، والانفاق الاستهلاكي، وسوق السلع الأساسية.
تبدو التطورات المتعلقة بالفيروس القاتل قوية لدرجة أن تأثيرها على الأسواق العالمية أهم من أي مستجدات على الساحة الاقتصادية سواء من حيث إعلان بيانات اقتصادية تتعلق بالنمو الاقتصادي أو حتى تقرير مجلس الذهب العالمي الفصلي أو حتى نتائج الشركات، وتعني حالة عدم اليقين الراهنة المطالبة بعلاوة مخاطرة إضافية من الأصول المعرضة للطلب الصيني، وربما يعني ذلك أيضاً بقاء معدلات الفائدة منخفضة لفترة أطول، كما تظل السلع ذات الصلة القوية بالصين تحت الضغط.
من المنظور الاقتصادي، فإن الاقتصاد العالمي أصبح أكثر تكاملاً وتداخلاً مقارنة بعام 2003 وهي السنة التي ظهر فيها وباء سارس، فعلى سبيل المثال، فإن حركة النقل الجوي العالمية تبلغ في الوقت الحالي ما يزيد عن ضعف حجمها الذي كانت عليه في 17 عاماً، على النقيض من عام 2003 عندما كانت السياحة الصينية موجهة إلى الداخل في الأساس، بينما الآن أصبح السياح الصينيين محركاً رئيسياً للسياحة العالمية، ولنا أن نتخيل فقط أن الصين وآسيا يمثلون نحو 20 بالمائة من المبيعات السنوية لبعض سلاسل الفنادق العالمية و شركات السلع الفاخرة.
تسبب “سارس” في محو حوالي 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الصيني في عام 2003، أي ما يقرب من 40 مليار دولار، لكن عدم اليقين القوي حول مدى انتشار فيروس كورونا يجعل من الصعب للغاية التكهن بالتأثير الكلي، وهذا ما يؤكده صندوق الدولي في الوقت الراهن، ومن شأن التكهنات الدقيقة بشأن هذا الأثر أن تستغرق وقتاً لكن من الواضح أن تباطؤ الطلب المحلي الصيني سيترك بصمته على الاقتصاد العالمي، في الوقت الذي يحاول فيه التعافي من تأثيرات الحرب التجارية في عامي 2018 و2019.
يظل القطاع السياحي أبرز المتضررين من الأزمة الراهنة، حيث يتوقع انخفاض إيرادات قطاع الطيران العالمي بنحو خمسة مليارات دولار في الربع الأول بسبب إلغاء الرحلات الجوية من وإلى الصين، كما أن قطاعات التجزئة والنقل ستكون بين الأكثر تضرراً، وستتسبب الأزمة في ارتفاع معدلات البطالة، ففي الصين وحدها من المتوقع فقدان 5 في المائة من العاملين بقطاع الخدمات وظائفهم، ما يعني تعطل نحو 20 مليون شخص عن العمل.
على عكس الوضع داخل الأسواق الخطرة، فإن الملاذ الآمن الذهب استفاد بقوة من المخاوف المتعلقة بالفيروس الصيني، فقد اشترى مستثمرو صناديق المؤشرات المتداولة 83.4 مليون أوقية هذا العام، مما يفسر زخم أسعار الذهب، رغم الهبوط الحاد في مشتريات البنوك المركزية ومحلات المجوهرات، لترتفع عقود الذهب الآجلة إلى 1583 دولار للأوقية، أمّا في المعاملات الفورية فوصل سعر المعدن النفيس إلى 1580 دولار للأوقية، وزاد سعر الذهب بحوالي 65 دولاراً خلال الشهر الماضي، في حين تجاوزت خسائر النفط 15 في المائة في الفترة نفسها.
تدور الآمال في الوقت الراهن حول وصول فيروس كورونا لذروته عمّا قريب، وربما يكون ذلك في نيسان (أبريل) المقبل، مما سيحد من الضرر الواقع على الاقتصاد العالمي، ويزيل حاجة البنوك المركزية حول العالم للتيسير النقدي، كما أن عوائد السندات الحكومية في الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة ظللت باللون الأحمر مع تكالب المستثمرين على شراء تلك الديون كأحد الملاذات الآمنة.
في المقابل، لا زالت التداعيات على الاقتصاد الأمريكي محدودة وربما تعيد إحياء مسألة فروق النمو الأوسع بين الولايات المتحدة وبقية دول العالم، ولأن الصين أكبر مستهلك عالمي في سوق السلع الأساسية، فإنه كلما ظلت المصانع مغلقة لفترة أطول مع فرض قيود على السفر وتوقف البناء، كلما زادت تداعيات الطلب على السلع، حيث تراجعت أسعار النحاس بنحو 8.5 في المائة منذ منتصف يناير، كما هبط سعر خام الحديد بأكثر من 6 في المائة، ويكفي القول بأن هناك ضغوطاً متصاعدة على السلع، حيث تمثل الصين 50 بالمائة من الاستخدام العالمي للنحاس، كما تمثل 70 بالمائة من السوق العالمية لخام الحديد، وإذا تسبب فيروس كورونا في تأخير طويل في أنشطة البناء، فإنه قد يتم تأجيل أيّ زيادة في الطلب على خام الحديد.
د. خالد رمضان عبد اللطيف -كاتب مصري متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية والمقال من رأي اليوم