فوضى …. كانت كوندوليزا رايس أسمتها “الخلاَّقة” بما يعطي الفوضى لَحْناً إيجابياً و يَشيِ بعالمٍ عربيٍّ ورديِّ اللاحه كأنهُ ربيعٌ متدفقٌ في وعودهِ بالازدهار. كل ذاك تحول لما نحن عليه من ازدراءٍ عالميٍّ عميقٍ للشخصيةِ و للإنسانِ العربي مع تَمَسُكٍّ بتلابيبِ الدولِ العربيةٍ حَلْباً لما تملك لبيعها السلاح و العطور و لِطيِّهَا تماماً تحت مظلات التحالفات التي لا تفيدها و يستفيد منها عدو الشعوب الحرة. و هي كذلك فوضى منتظمة، بمعنى أنها تتبع ترتيباً و منهاجاً و تحملُ توقعاً لما سيأتي بعد كل خطوة. إنها فوضى مُخططة على يدِ و بأفكارِ خبراءَ فوضى. و ما نحنُ إلا مُتلقينَ طائعين لها. بعضنا ضحية و بعضنا أداة. منا العرب البؤساء و المتنعمين على حَدٍّ سواء و هم الضحية و الأداة.
تتجاور متناقضاتٌ في أفراد الشعب الواحد و بين الدول لا تليقُ إلا بمن لا شعور لديه؛ كالبلادةِ أو حالةَ الإدمان التي تُوصِلُ المُدمن لتقطيع جسده دون إحساس. الإدمان يُسَهِّلُ التقطيع و التقطيع يحتاج الإدمان. يتجاوز في هذه الحالة القادرُ من أصحاب الحظوة الاقتصادية أو السطوةِ القانونية أو غير القانونية، يتجاوز كل من هو حوله ممن يستطيع أن يزيحهم من طريقه و يتجاهل ما بهم من حاجةٍ لا تتوافق واعتيازه للزهو و العلو. مدمنٌ على النرجسية الانانية مستمتعٌ بفوقيتهِ غير آبهٍ بالرعاع، كما يراهم. هنا بلا كثيرِ تعاطف و بكثيرِ نقمة يتجاور الفقير و الغني؛ و السقيم غير القادر على علاج والسقيم القادر على أغلى العلاج؛ تتسع الأحياء العشوائية بالجوعى للخدمات و تتمدد الأحياء النموذجية التي يسكنها الصفوة؛ تسودُ التفرقة القائمة على الاختلاف بشتى أنواعه اللونية و العرقية و المذهبية و يتوغل الإقصاء المواطني لتهميش و محو الآخر؛ تنتشر الكوارث الإنسانية و يتزلزل البيت و يهيم العرب لاجئين ونازحين و ما بين حدوديين ركاب قوارب هجرة؛ يعلو البنيان على أكتاف عمالةٍ مستوردة تذوق سياط الشهوة للارتفاع و تُكتبُ القصص عن خيالٍ ببلادٍ كانت تعيش على وقع النداءِ بالمعروف والنهي عن المنكر فأصبحتْ تحتفلُ بأعياد الشعوذة. لا يقطعُ شايلوه من جذعه لكنه يقطعُ في جذعنا و من لحمنا و يستطيبُ بجرعِ دمائنا على موائدنا و بحمايتنا و تُفرد له البسط الحُمْر و يطأُ المساجد. ينفصمُ العرب و ينفصمُ دينهم و تظهرُ لهم أعرابٌ جُدد و ديانةٌ مبتكرةٌ. تنظرُ فترى و تنصتُ لعالمٍٍ من محيطٍ لمحيطٍ يتكسَّرُ على إيقاعِ السلطوية و الظلم و الفقر و الانحلال و التبعيةِ المتجددة.
في الجانب المرافق تنتظمُ آلةُ الإحصاء و التقرير الدولية فترصدَ السكانيات والاقتصاد و حالة الفقر وانتشار الوباء و هل علىٰ أم انحنىٰ مؤشرَ النمو و كم من طبقةٍ ستهبط و من قد يرتقي ومن سيتخلف ومن سيهاجر و كم من عِرْقٍ مهدد و غيرهُ متسلط و هل ننافسُ أم نتقهقر ومن يستثمر ومن سيخسر. ثم تدور المطابع و تُنشرُ التقارير بالأغلفةُ اللامعة الملونة و المعززة بعشرات الرسوم البيانية بأشكالها، و تنعقدُ الندوات والحوارات وتُقترحُ السياسات والتوجهات. في المقابلِ تدور بشكلٍ ما آلةٌ حكومية تعيش على ما سبق فتُصَدَرُ الخطط و تُبْنَىٰ الاستراتيجيات و تلتهمُ ما يجودُ بهِ الخيريون من هذا العالم هِباتاً و قروضاً. ثم نجدُ أن رغم هذا اللمم من المال الموهوب و المقرض فكُلَف الحياة زادت عن قدرتنا جمعَ ما يكفيها من خلالِ أي عمل، و أن شبابنا بطَّالٌ و أن خدمات حكوماتنا لا تتوافق و ما يليق بما وهبته الدول المانحةُ و فرضتهُ الضرائب. ثم تطفو قصصَ الفساد فتعلم أنك تعيشُ عالماً عربياً مقسومةٌ فيه المقادير. من يزداد ترفاً و ابتعاداً عن قيمة الوطن، باستثناء كونهِ مَحْلباً للمال و النفوذ و هو يتمايزُ مع الأهواء المربحة كيفما مالت مال و همه الأكبر كيف يقبض على عُقَدِ الاقتصاد و الفساد ليسود. و كل من غيره ممن يعيشون ليأكلوا و يتكاثروا مُشبِعين غريزةَ البقاء وحسب. تكتشفُ أن مستشفاك و مدرستك و شارعك و مستقبل ذريتك لا تتساوى في الدولة العربية و مقولةَ و فِعْلَ المحافظةَ على أَمْنِكَ. سَيُصرفُ على ضمان أمنك أكثر مما سيصرف على ضمان صحتك و تعليمك و خدماتك و سيُحرصُ على ميزان كلماتك وهمساتك الالكترونية الافتراضية و ما تقول، ضماناً لأمنك. و سُتعطىٰ ما يسدُ رمقَ التدينِ عندك بجرعاتٍ محسوبةٍ من الوعظِ الواهن باضطراد فتتعلمَ كل النواهي و النواقض باستثناء أن تقول لا بوجه ظالم. و بالتوازي، ولما تهواهُ النفس بكل ما تشتهيه، ستوفرُ لك دولتك كل موبقٍ يهدرُ أخلاقاً و تربيةً. لا يهمُ إن باسم التقدم والحرية أُحيِيَتْ سَوْآتُ الإنسان بِبِلادِ التوحيد فالمهم هو رضى السلطان و تنفيس الغرائز.
اليوم ينقسمُ العربيُ الفرد لشرائحَ فوضويةٍ منتظمة. تخيلوه انموذجاً للدولة؛ أي دولة. فهو شريحةٌ فاضلةٌ و شريحةٌ فاجرةٌ. شريحةٌ مستسلمةٌ و شريحةٌ مقاومة. شريحةُ إستقلالٍ و شريحةُ قواعد أجنبية. شريحةٌ متخمةٌ و شريحةٌ جائعة. شريحةٌ مريضةٌ و شريحةٌ صحيحة. شريحةٌ شريفةٌ و شريحةٌ فاسدة. شريحةٌ أمينةٌ و شريحةٌ خائنة. شريحةٌ عالمةٌ و شريحةٌ جاهلة. شريحةٌ حاكمةٌ و شريحةٌ خاضعة. إنقساماً مزروعاً عن سبق إصرارٍ و تَعَمُدٍّ تلغي كل شريحةٍ فيه ضدها. و النتيجة بالطبع ليس سواد الخصال أو الشرائح الإيجابية فكيف يكون هذا و كل السلبيات تنهشها. يظهر العربي اليوم بمظهرين رئيسيين و هامشٌ باهتٌ يرافقهما. مظهرٌ متوافقٌ مع نفسهِ في الثراء أو التحالف مع الثراء و قبولِ لعنة التحالف مع الصهيونية. و مظهرٌ مذبوحٌ يقاوم. قِلَّةٌ تبقى على الجمرِ مبدأيةً تقاومُ ثراء الفساد و جَهلَ الرفاه و انحياز العدل و سطوةَ القهر ولكنها كمن يُلطَمُ بأمواجٍ تأتي من كل جهةٍ عازمةً على الخنق. و معهما هامشٌ غرائزيٌ يتبعهما يُحوِّلَ الحرامَ حلالاً. هامشٌ يجدُ ظِلَّهُ مع الثراء و اللعنة التطبيعية و هي تتسعُ.
لسنا ضد الثراء بل مع عدالةٍ معهُ و رقي إنسان. مع توقٍ لتحريرِ الأرضِ من الاستعمار لا لِدِعَةٍ مع عدو. مع حياةٍ تبعثُ على التفاؤل والاطمئنان و الكرامة. لكن هذا سراب. المطروح اليوم خلافَ كل ذاك. هو حقيقةٌ يُباعُ في سوقها العربي ما نعتقدهُ ثوابتَ عقيدة و أوطان و أعراض. اليوم يُحَلِّقُ من المحيط للخليج خطان أزرقان و نجمة سدادسية و بجوارهم ألوان الطيف. واحدٌ هو رمزُ الاستعمار و الثاني رمزُ الانهيار. تلك هي الحقيقة وتلك هي مكونات الفوضى المنتظمة في التسيد الصهيوني والتسيد اللاأخلاقي وهما كافيان لدحرِ كل عالمنا العربي من محيطه لمحيطه. و القادمُ أدهى و أَمَّرْ.