ما بين فرنسا الاستعمارية وفرنسا عصر الأنوار/ لامية خلف الله
15 أبريل 2022، 03:00 صباحًا
فرنسا، الدولة الاستعمارية سابقا والتي تعتبر بالنسبة للكثيرين عدوا وجبت كراهيته لما اقترفته بحق الشعوب التي استعمرتها من جرائم تعذيب وتنكيل والتي لا تختلف فيها عن دول اتخذت من الاستعمار عقيدة في زمن مضى كانجلترا الاستعمارية وألمانيا النازية وقبلهم شعوب من الأزمنة الغابرة منذ وجود الإنسان على الأرض اتخذت من الغزو ملة تعتاش منها.
لا أحد منا يحب الاستعمار ولم ولن ننسى جرائم الفرنسيين السابقين في بلادنا، لكننا بالمقابل لا يجب أن يأخذنا التعصب حتى لا نعود نفرق بين حكومة وشعبها من الزمن الماضي، شعب أنجب من خيرة المفكرين الذين ظلت أسماءهم محفورة في الذاكرة الإنسانية بما قدموه لأجيال تلت من إرث فكري عظيم لازال منبعا يرتوي منه كل باحث عن المعرفة.
ولعلنا إذا أردنا أن ننهل من هذا التراث أو أبدينا إعجابا به تخرج أبواق من كل جهة تندد بموقفنا من كل ما له صلة بفرنسا وكأن الفرد فقد حريته حتى في إبداء رأيه أو إعجابه بكل ما هو جميل أو اختيار ما يتناسب مع شخصيته وفكره في هذا العالم الشاسع المحيط به. حسب رأيهم على الفرد أن يحمل فكرا رجعيا ويعود للماضي وينصهر فيه دون محاولة التقدم خطوة نحو المستقبل، مع أن العودة للماضي مفادها معرفة العثرات لتجاوزها والاستفادة من خبرات عقول تركت بصمتها في الوجود. والاستناد على القديم يكون لأخذ العبرة أو لتطويره أو تحيينه وليس المكوث فيه والانغلاق عليه لأن التاريخ لا يرحم.
لا يفرق الكثيرون بين الإمبرياليين الذين حكموا فرنسا وبين أبناء فرنسا من المفكرين والمبدعين الذين ألهموا العالم بفكرهم وتفننهم في شتى المجالات، والذين رفضوا رفضا قاطعا سياسة بلدهم إتجاه الدول المستعمرة ووقفوا إلى جانب الشعوب المضطهدة.
وفي هذا الصدد نتذكر الثوري الفيتنامي العظيم هوشي منه الذي حارب فرنسا ودافع عن شعبه وقاده للتحرر، لكنه أولا درس في فرنسا نفسها مبادئ الحرية والمساواة والأخوة وكون صداقات متينة مع فرنسيين كما خاطب شعبه قائلا أنه لا يجب الخلط بين حكومة فرنسا آنذاك وشعبها الذي يوجد بين أفراده من يؤمن بحرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها.
أحب العالم فرنسا التي لازالت تلهم الكثيرين بالذوق الرفيع ولعل الذوق فكرة والفكر هو من كان الدافع والطاقة لاندلاع ثورات انبثقت عنها جمهورية قائمة على مبادئ : العدالة والمساواة والأخوة.
أسس الفلاسفة والكتاب الفرنسيون لإرث فكري عظيم ظل منهلا لكبار العقول على يد جون جاك روسو ودنيس ديدرو وجون بول سارتر وفولتير وغيرهم، وظلت باريس لفترة طويلة من التاريخ وجهة كبار الأدباء من كل أنحاء العالم خاصة أمريكا، باحثين عن الحرية والفكر النير وجماليات العيش على غرار أرنست همنجواي الذي كتب عن إقامته فيها ” باريس… وليمة متنقلة ” وجيمس جويس صاحب رائعة “يوليس” ، ازرا باوند، سكوت فيتزجيرالد وجيرترود الألمانية…
من منا درس الأدب ولا يعرف موليير ورامبو وراسين وبلزاك واميل زولا وفيكتور هيجو وفلوبير وغيرهم كثر؛ كتاب ظلت كتاباتهم علامة فارقة في تاريخ الأدب الإنساني، كتبوا عن زمن جميل كانت فيه طبقة النبلاء والنخبة تجتمع في صالونات باريس الأدبية الراقية، كان فيه للقصة الحيز الأكبر من الاهتمام أين لم يكن وجود للشاشات التي قضت على الألفة في صحبة رفقاء القلم والفكر، زمن كان فيه للمسرح رونقه وللكتاب بريقه وللحكاية ألقها وللشعر الهامه.
ماذا تبقى من فرنسا عصر الأنوار اليوم ؟
لا ريب في أن المتابع للشأن الدولي اليوم يلاحظ اختلاط وتمازج الأجناس في فرنسا خاصة دون غيرها من الدول الأوروبية نتيجة الهجرة.
لما كانت الهجرة مقتصرة على الكفاءات وذوي المستوى الفكري الراقي، تمكن هؤلاء بعملهم وتفانيهم وفكرهم المنفتح من تقديم الإضافة لبلد قصدوه لأجل حياة أفضل لكن مع الهجرة العشوائية غير الشرعية، أضحت بلاد الأنوار جامعة لكل الأجناس والملل والأطياف، ومع تصاعد التعصب والخطابات المتطرفة اختفت منها الروح المحبة للحياة وانطفأ منها النور الذي كان يلقي بشعاعه على العالم المحيط به، حتى الكتاب من الجيل الحالي هناك أصبحوا يقلدون آدابا لا تضاهي ما كتبه كبار المجددين في عصر الخروج من الظلمات إلى النور.
اليوم نشهد صراعا على كرسي الرئاسة بين من يمتلكه الحنين لفرنسا عصور التنوير وبين من يتخذ من المهاجرين وتدا ليصل به إلى الإليزيه.
من سيربح الرهان يا ترى؟ هل يفوق اليمين المتطرف التوقعات في آخر لحظة؟ سواء هذا أو ذاك، هل سيعيد لفرنسا مجدها الثقافي ورونقها الفكري؟