رفع العلم الكردي وسقوط العراق
ليس النزاع العربي – الكردي حول مستقبل مدينة كركوك أمراً مفاجئاً. يمكن أن يقال إن القرار الأـخير الذي اتخذه مجلس محافظة كركوك برفع علم الإقليم الكردي فوق مبنى المحافظة جاء مستفزاً في هذا الوقت، كما أنه قرار انتهازي، يحاول الإفادة من الزخم الذي يشعر به الأكراد، في سورية وفي العراق، نتيجة نجاحهم في كسب التعاطف الدولي معهم بعد الحرب التي تشارك فيها وحدات «البيشمركة» بنجاح ضد تنظيم «داعش» في هذين البلدين. لكن وراء قضية العلم ومصير كركوك خلاف مزمن حول هوية المدينة ومسألة انضمامها إلى العراق أو إلى الإقليم الكردي، وهو خلاف يعود تاريخه إلى أيام صدام حسين، عندما شعر الكرد بأن المدينة الغنية بالنفط «سُرقت» منهم وجرى إحلال آلاف العائلات العربية فيها، استقدمها صدام من أبناء العشائر العربية الموالية له، فيما جرى ترحيل الكثيرين من أهلها الأكراد، في ظل الخلاف المزمن بين نظام صدام والحزبين الكرديين في شمال العراق.
في هذا المناخ، تأخذ قضية العلم بعداً قومياً في العراق، وتحدّد هوية من يرفعه. كما تعكس حال الانقسام العميق بين العراقيين، القائم على خطوط قومية وعرقية ومذهبية، والذي لم تنجح السنوات الثلاث عشرة، منذ الغزو الأميركي وسقوط النظام السابق، في إيجاد حل له. بل على العكس، فقد ضاعف السلوك السيئ، الذي يفتقر إلى مشاعر اللحمة الوطنية، بين مختلف الطوائف، أو «المكونات»، حسب المصطلح الذي يستخدمه اللبنانيون لوصف طوائفهم، ضاعف هذا السلوك في تعميق الهوة وتأجيج الخلافات، وبالتالي في سقوط العراق.
علم كركوك فوق مبنى المحافظة إلى جانب العلم العراقي، يشير في نظر الأكراد إلى ازدواجية الانتماء والهوية. فهم في الوقت الذي يعترفون فيه بأنهم عراقيون، حريصون على تأكيد أنهم أكراد كذلك، وربما قبل ذلك. وهم في شعور الانتماء المزدوج هذا ليسوا وحيدين في العراق، ولا في المنطقة، فشيعة العراق الذين يحاربون تنظيم «داعش» ضمن صفوف «الحشد الشعبي»، لهم كذلك راياتهم وشعاراتهم المذهبية التي تشير إلى الولاءات التي ينتمون إليها أو يتبعونها، والتي يتجه أكثرها إلى خارج الحدود، بدل أن تشير إلى ولاء واحد إلى الوطن العراقي وإلى جيشه. والأمر ذاته يمكن أن يقال عن أبناء العشائر العربية الذين يفهمون الانتماء القومي عداءً للهويات الأخرى التي يضمها العراق.
وفي ظل احتدام المشاعر القومية والطائفية في المنطقة كلها، لا يقتصر الأمر على العرب والأكراد، ولا على السنّة والشيعة. فالأتراك لهم أيضاً أن يدلوا بدلوهم في هذه الساحة. وهكذا وجد رئيس الحكومة التركية بن علي يلدرم الوقت الكافي، على رغم غرقه في تنظيم المهرجانات لرئيسه تحضيراً للاستفتاء الموعود، للاتصال برئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي ليبلغه أن أنقرة تعتبر رفع العلم الكردي «خطأ كبيراً»، ولن تقبل بفرض «الأمر الواقع» على كركوك. وبالطبع، ففي ذهن أنقرة وضع الأقلية التركمانية في هذه المدينة والتي لا تقل مخاوفها من هيمنة الأكراد وضم كركوك إلى إقليمهم، عن مخاوف العرب الذين يعيشون في كركوك. كما في ذهن أنقرة تمدد الدور الكردي في الإقليم، من حدودها الجنوبية مع سورية، حيث تنشط «قوات سورية الديموقراطية» برعاية وتسليح أميركيين، إلى الموصل حيث يلعب المسلحون الأكراد دوراً مشهوداً لإخراج مسلحي «داعش» من المدينة.
أما رئيس «الحركة القومية» في تركيا دولت باهشلي، والذي يزايد في عنصريته التركية على أردوغان، فقد اعتبر كركوك «مدينة تركمانية»، وقال إن مصير أنقرة متعلق بمصيرها، مطالباً الرئيس التركي بالتدخل لحماية كركوك من «الهيمنة الكردية».
قد تتدخل الوساطات للتخفيف من حدة الأزمة القائمة بشأن العلم الكردي. وقد ينتهي الأمر بقبول البرلمان العراقي بهذا الأمر الواقع، كما قبل الأمر الواقع الذي أتاح للأكراد رفع علمهم فوق مؤسسات الحكم الذاتي الذي ينعمون به في أربيل والسليمانية. لكن كركوك تبقى شوكة في خاصرة العلاقة الكردية- العراقية، حلّها المثالي في قيام عراق موحد لا فرق فيه بين من يقيم في كركوك أو البصرة أو بغداد. لكن بين الواقع وهذا الحلم، ما بين الأرض والمريخ!
إلياس حرفوش