الجزائر: من نضالات الأمس إلى مجابهات اليوم/ دكتور محيي الدين عميمور
18 أغسطس 2023، 18:33 مساءً
أعرف أن هناك مقولة ترى أن عودة التاجر إلى دفاتره القديمة دليل على شعوره بالإفلاس، لكنني أحسّ أحيانا بأن الرجوع إلى إنجازات الأمس قد يحمل بذور تفاؤل للغد.
شكّل عام 1956 نقلة نوعية بالنسبة للثورة الجزائرية التي بدأت تستقطب الاهتمام الدولي، والذي تزايد بشكل لا فت للنظر بعد جريمة أول اختطاف لطائرة مدنية، حيث اختطفت الطائرة المغربية التي كان يستقلها(الرئيس الجزائري الأسبق) أحمد بن بله ورفاقه الزعماء الثلاثة في 22 أكتوبر 1956، وحدث العدوان الثلاثي على مصر بعد ذلك بعدة أيام ليؤكد الارتباط الإستراتيجي في ذهن الشمال بين المشرق والغرب، وكانت هزيمته شحنة أوكسجين للنضال الثوري العربي.
كنّا آنذاك طلابًا في القاهرة، وكانت المجموعة التي أنتمي إليها، والتي حملت اسم البعثة الجزائرية الحرة، أول مجموعة طلابية في المشرق العربي، تلتف حول جبهة التحرير الوطني التي كان يمثلها في المشرق آنذاك أحمد بن بلة.
والتحقت المجموعة الأولى الطلابية بجيش التحرير الوطني، في 1954 وبداية 1955، وكان من أبرز أفرادها محمد بو خروبة، الذي دخل إلى التاريخ فيما بعد باسمه الثوري، هواري بومدين، كما كان من أبرز شهداء الساعات الأولى للثورة واحد من مجموعة الطلبة الجزائريين بالقاهرة، وهو الأخ بلقاسم زيدور، الذي مات تحت التعذيب في نوفمبر 1954.
وكانت المجموعة الثانية تستعد للالتحاق بصفوف الجيش، بعد أن أتمت تدريبها العسكري، وسيكون من بين أفرادها المجموعة التي ألقي القبض عليها في باخرة اسمها “آتوس” كانت تحمل السلاح من أحد الموانئ المصرية إلى الجزائر (16 أكتوبر 1956).
وقبل انتهاء النصف الأول من العام الثالث للثورة شن الطلبة الجزائريون في الجامعات الفرنسية أو الخاضعة للسلطة الفرنسية إضرابًا عن الدراسة، لم يحدث بشأنه أي تنسيق مع الطلبة الموجودين في المشرق العربي.
والتحق بعض المضربين بجيش التحرير، والتحق آخرون ببعض جامعات الدول الاشتراكية، بينما استقطبت المصالح السياسية للجبهة الباقين، وكان ذلك في 19 ماي 1956، الذي كان بالتأكيد يومًا من أهم أيام الطالب الجزائري، ولكن التركيز عليه، والذي أدى إلى اختياره كيوم للطالب، أعطى الشعور، حقًا أو باطلاً، بأن هناك من أراد أن يهضم حق الطلاب الذين انضموا إلى الثورة قبل ذلك التاريخ، وهم يعدون بالمئات من مختلف المعاهد الجزائرية والزوايا والكليات في المشرق والمغرب، ومعظمهم من أبناء التكوين العربي، وهو خطأ تاريخي كان بداية تعميق الشرخ الرهيب الذي عرفه قطاع المثقفين الجزائريين، بين “المعربين” و”المفرنسين”.
وبلغتنا الأخبار التي تقول بأن السلطات الفرنسية منعت وفد الكشافة الإسلامية الجزائرية من المشاركة في المؤتمر، وبتسرعي المعتاد أبادر فأرسل إلى الشيخ أحمد توفيق المدني، رئيس مكتب الجزائر في القاهرة تقريرا أقول فيه بالحرف الواحد:
“في يوم 25 يوليو 1956 يجتمع في الإسكندرية شباب من كل ركن في العالم العربي، يجتمع ليتعارف وليتعرف على كل أجزاء وطنه، وترتفع الأعلام فخورة مرفرفة، فلا يكون بينها العلم الجزائري، ويتلفت الجميع باحثين، بين وفود الدول العربية، عن ممثلي الأمة التي تحفر قبر الدولة العظمى الرابعة، فلا يجدون أحدًا”.
ثم قدمت للشيخ المدني مشروعًا لتكوين فرقة كشفية مؤقتة مهمتها الأولى والوحيدة تمثيل الجزائر في المؤتمر الكشفي العربي الثاني، وفي المعسكر الكشفي الذي يقام بهذه المناسبة.
كان الشيخ يحمل لي مودة خاصة كأصغر طلاب بعثة جمعية العلماء قبيل ذاك، فوافق على طلبي وأعطاني 15 جنيها ( 150 دينار تقريبا) لمصاريف تكوين الفرقة وسفرها.
كان الوفد الكشفي في المعسكر مكونًا مني كقائد للفريق، ومن الأخوين المرحوم عبد القادر بن قاسي والأخ أحمد ذراعو، ولم يكن للرفيقين أي خبرة كشفية سابقة فتكفلت بإعطائهما المعلومات الرئيسية، وخصوصا أسلوب التحية الكشفية، وكانا هما كل الوفد الجزائري الذي سار في الاستعراض الرسمي، بينما كلفت أنا، مع بقية قادة الفرق المشاركة، برفع العلم الجزائري الذي كنا أعددناه لهذه المناسبة.
وكان عليّ أن أعدّ ملابسنا الكشفية، فاخترت لها اللون الأزرق، وذلك لسببين، أولهما تفادي الملابس الرسمية للكشافة الإسلامية حيث لم يكُن لديّ تفويض من قيادة الكشافة الإسلامية، وحتى الشارات الكشفية وضعت لها تصميمات تختلف عن شعار الكشافة الإسلامية (زهرة الياسمين) لنفس السبب.
أما السبب الثاني فكان له جانب تاكتيكي، إذ كنت أعرف أن المعسكر سيكون بحرًا هائلاً من اللون الكاكي، اللون الرسمي للكشافة البرية، خاصة وقد وصل عدد بعض الوفود إلى عدة مئات من الكشافين، ذكورًا وإناثًا، وهو ما يعني أن عددنا الهزيل (ثلاثة) سيذوب في الحشد لو استعملنا اللون الكاكي للملابس.
والذي حدث بالفعل هو أننا أثرنا الفضول ثم الانتباه بملابسنا الزرقاء ثم الاحترام والتبجيل، وهو ما مكننا من التحرك الديناميكي في المعسكر.
وكانت هناك مفاجأة غير سارة، فالعلم الجزائري لم يكن مرفوعًا مع أعلام الفرق المشاركة في المعسكر، وعندما توجهت إلى قيادة المعسكر لاستطلاع الأمر فوجئت بأن القضية ليست مجرد سهو، وإنما كانت قرارًا اتخذ بألاّ ترفع إلاّ أعلام الدول “المستقلة” فقط.
وجنّ جنوني، فذهبت إلى السيد عزيز بكير، قائد المعسكر، ثم للسيد علي حافظ، المسؤول الأعلى للكشافة، لأسجل احتجاجي، ولأطلب تصحيح الوضع، وكان الرد في البداية فاترًا، فاتصلت بعدة وفود عربية وجدت لديها دعمًا كبيرًا، وبوجه خاص الوفد السوري، والذي تلاه الوفد السوداني، وأكد لي رئيسه أنه سيقاطع حفل الافتتاح الرسمي إذا لم يُرفع العلم الجزائري مع بقية الإعلام، وكان ذلك عشية وصول الرئيس جمال عبد الناصر لافتتاح المعسكر الكشفي، ويمكن أن نتخيل أثر ذلك على قيادات المعسكر عندما تناهى لها الخبر.
واستدعاني السيد علي حافظ وهو يرتجف غضبًا ويحذرني من تبعة ما يمكن أن يحدث، ولم أتراجع عن موقفي، بل قلت له أنني سأغادر المعسكر حالاً، وعليه أن يتحمّل مسؤولياته أمام الرئيس عبد الناصر (ولقد ذكّرني ببعض ذلك السيد عزيز بكير، الذي زار الجزائر بعد استرجاع الاستقلال، في إطار نشاط كشفي).
ولم يجد المسؤول الكشفي أمامه إلاّ القول بأنهم لا يملكون أعلامًا جزائرية، لأنهم لم يكونوا مستعدين لرفعها، فأخرجت له من حقيبتي علمًا كبيرًا (كنت أحتفظ به ليحيط بجسدي عند الانتقال للعالم الآخر ثم أهديته للمتحف المركزي للجيش لأنه “وثيقة” تاريخية ليس من حقي، كفردٍ، أن أحتفظ بها، وكان هو نفس العلم الذي كنا قد رفعناه في معسكر الشباب الإسلامي الأول في بور سعيد في العام الماضي).
واعتمد المؤتمر الكشفي الفقرة التي اقترحناها في البيان الختامي، وجاء فيها:
يحيي المؤتمر كفاح الشعب الجزائري العربي المجاهد عامة، والكشافة الإسلامية الجزائرية بوجه خاص، ويتمنّى أن تتكلل أماني العروبة بتعاونها وتضامنها وكفاحها في استرجاع حقوق الجزائر وحصولها على أمانيها القومية.
وكان هذا ختام مشاركة الجزائر في المؤتمر الكشفي العربي الثاني في الإسكندرية..، ونهاية مهمة الفرقة الكشفية الجزائرية.