إكرام الميت دفنه.. عن كيسنجر وأحادية القطبية أتحدث/ رامي الشاعر
رحل عن عالمنا منذ أيام الصهيوني الأمريكي، مستشار الأمن القومي الأمريكي، ووزير الخارجية، “ثعلب” الدبلوماسية الأمريكية، ومستشار العلاقات الدولية والسياسات الخارجية لعدد من الرؤساء ومراكز البحث والحكومات الغربية هنري كيسنجر.
توفي كيسنجر يوم 29 نوفمبر الماضي عن عمر يناهز المئة عام، عمل خلالها مستشارا للرئيس لشؤون الأمن القومي في الفترة من 1969-1973، ثم وزيرا للخارجية في الفترة من 1973-1977 في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، ليصبح بذلك الوحيد الذي شغل المنصبين في الوقت نفسه (في الفترة ما بين 1973-1975).
تقول بعض التقديرات إن حصاد حياة “ثعلب” الدبلوماسية الأمريكية، وسياساته المختلفة حول العالم، هي ما يقرب من ثلاثة ملايين إنسان. بدءا من حملة القصف التي قامت بها إدارة الرئيس نيكسون ضد كمبوديا 1969، ومرورا بالإطاحة برئيس تشيلي المنتخب ديمقراطيا سلفادور أليندي عام 1973، وانتهاء بـ “دبلوماسيته المكوكية” الشهيرة التي اتبعها في الشرق الأوسط عام 1973، والتي غيرت من وجه المنطقة ومن مصير القضية الفلسطينية، بخروج مصر من معادلة الصراع، وتوقيع معاهدة كامب ديفيد.
كان كيسنجر يوهم الأطراف بأنه يأخذ مصالحهما وأهدافهما في الحسبان، في حين أن ما كان يضمنه ويضعه على قائمة أولوياته هو مصالح إسرائيل بالدرجة الأولى على حساب الشعب الفلسطيني. وليس ما يجري في غزة اليوم، بينما أكتب هذه السطور، إلا واحدة من النتائج المريعة لمثل هذه السياسات الخبيثة والرديئة وغير المسؤولة، المعادية للقضية الفلسطينية وللعرب بشكل عام.
ومهما قيل عنه كأول أكاديمي ورجل دولة تعامل مع السياسة الخارجية في إطار النظام الدولي، إلا أنه أولى أهمية قصوى، خلال تسلمه منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي، ولعل ذلك يعود لأصوله وانتماءاته الصهيونية، لجماعات الضغط التي هيمنت على مراكز البحث العلمي والإعلام والاقتصاد، وهو ما أثر على صناعة القرار الأمريكي من الداخل.
لقد عمل هنري كيسنجر على تثبيت الهوية السياسية الأمريكية، لتصبح على يديه ذات بعد استراتيجي ثابت لا يتغير بفعل تعاقب الرؤساء الأمريكيين. وهي الاستراتيجية التي ظلت تدور في فلك ضمان وحماية أمن إسرائيل، وهو ما حاد بالولايات المتحدة عن دورها المفترض وفقا لميثاق الأمم المتحدة، بأن تضطلع الدول الأقوى والأقدر بحفظ السلم والأمن الدوليين، وليس إدارة الصراعات وتوسيعها لمصالحها الخاصة، وهو ما شكل خروجا فاضحا على التصور الأصلي لميثاق الأمم المتحدة.
فيما يخص حرب روسيا والناتو في أوكرانيا، فقد كان كيسنجر مهندس سياسة الانفتاح بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة إبان الحرب الباردة، فيما أثارت تصريحاته ضجة عقب سعيه لتحقيق سلام تفاوضي، إلا أن هدفه في الحقيقة كان تمهيداً لبدء الحرب الهجينة اقتصادياً واجتماعياً وإعلامياً وعسكرياً ضد روسيا.
لكن كيسنجر، في الوقت نفسه، جادل بأن إجراء محادثات بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية ضرورية لتجنب خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة ستكون “مدمرة”، وهو ما نرى الآن تداعياته اليوم فيما يجري في أوكرانيا وفلسطين.
إن إكرام الميت دفنه، إلا أن كيسنجر لن يدفن اليوم وحده، بل ستدفن معه حقبة بأسرها، ستدفن معه فكرة القرن الأمريكي، وستدفن معه الهيمنة الأمريكية، وسيدفن معه البترودولار، وستدفن معه أسطورة القوة الإسرائيلية التي لا تقهر، وسيدفن معه وقبل كل شيء العالم أحادي القطبية.
لقد لعب كيسنجر خلال السبعين عاماً الماضية دوراً هاماً في رسم السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وكانت يده ملوثة بقتل ملايين الأبرياء ودمار العديد من البلدان. ولعل ما يدفعه شعبنا الفلسطيني اليوم في غزة، حيث بلغ عدد الشهداء أكثر من 15 ألف شهيد، والرقم في تصاعد مخيف، أغلبهم من الأطفال والنساء، بعدما صدرت الأوامر من تلاميذ كيسنجر أمثال جون كيربي وأنتوني بلينكن بتجديد العدوان ضد الشعب الفلسطيني.
لكن النضال سيستمر، ولن نتوقف عن محاربة المحتل، إلا بعد التحرير الكامل لفلسطين الحبيبة، وقيام دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وأؤكد هنا أن كل المحاولات لخلق فتنة بين أطياف الشعب الفلسطيني، على غرار الفتن المتبعة في تكنولوجيا الثورات الملونة، التي كان كيسنجر أحد عرابيها مصيرها الفشل. والأوهام الإسرائيلية التي يتبناها مجرم الحرب نتنياهو بشأن “استئصال” حماس، وما يدور الآن من نشر وثائق أمريكية مفبركة تدعي أن إسرائيل كانت على علم مسبق بعملية “طوفان الأقصى” وتوقيتها ومكان انطلاقها، لرغبة إسرائيل بتنفيذ هدفها في إجبار الشعب الفلسطيني على الخروج من غزة وبعدها من الضفة الغربية لتضمهما إسرائيل بعد ذلك كما جرى حين ضموا الجولان والقدس، فليست تلك سوى أكاذيب تحترفها ماكنة الإعلام الصهيونية والغربية. وأرى أن زيارات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى رام الله لا تهدف إلا لتعميق الخلافات الفلسطينية الداخلية، وهو ما يصب في نفس مسار الخداع الماكر الذي كان يتبعه الصهيوني كيسنجر. لكن شعبنا الفلسطيني الصامد وقياداته ليس في صفوفهم خونة، ولن يغرر بهم أو يقعوا في فخ مهما تعرضوا لضغوط أو مصاعب.
كذلك فإن تواجد الرئيس الإسرائيلي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وإرسال الرئيس الأمريكي جو بايدن نائبته كاميلا هاريس إلى دبي يهدف كذلك إلى تشويه موقف العرب بالإيحاء بأن هناك دولاً عربيةً تدعم سياسة الولايات المتحدة وإسرائيل في عملياتهم الإجرامية ضد شعبنا الفلسطيني في غزة. لكني أود القول هنا إن الإمارات بذلت جهودا حميدة لدعم الحل السياسي السلمي العادل والشامل للقضية الفلسطينية في إطار حل الدولتين، وإعلان قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وسيأتي اليوم الذي سينفذ فيه صبرها وتتخذ موقفا حاسما ضد المسار الإسرائيلي الإجرامي، وهذا قريب جداً.
مع دفن كيسنجر، أحد أعمدة الأحادية القطبية، بعد محاولاته المستميتة للإبقاء على الهيمنة الأمريكية على العالم، وبعد هزيمة أوكرانيا الواضحة الآن للعيان، وتنصل دول الناتو واحدة تلو الأخرى من تمويل ودعم أوكرانيا، وبعد الململة التي نلمحها بين الشعوب الأوروبية، والتساؤلات التي يطرحها الواقع بشأن جدوى هذه الحرب، وكل ما ترتب عليها من عقوبات ضد أوروبا وليس ضد روسيا في واقع الأمر. أعتقد وآمل أن يكون ذلك بداية للتخلص من المرحلة الكارثية وغير الإنسانية من الاضطهاد الذي عاشته غالبية شعوب عالمنا لعقود طويلة، وأتمنى أن تبزغ شمس الاستقرار في العلاقات الدولية على أساس العدل والتكافؤ والمساواة وحق الجميع في الازدهار والتنمية المستدامة في ظل عالم متعدد الأقطاب.