هل بقي هناك ما يُمكن أن يقال/ دكتور محيي الدين عميمور
15 فبراير 2024، 10:45 صباحًا
العديد من الرفاق يغرقونني بالتساؤلات عن سرّ غيابي في الأسابيع الماضية، ولا أجد حرجا من الاعتراف بأنه لم يعُدْ لديّ ما أقوله.
لم يعُدْ لديّ ما أقوله وأنا أقرأ أن بلدا عربيا يُزوّدُ الكيان الصهيوني بالمواد الغذائية التي يحرم منها أطفال غزة، وأنا أسجل أن الرقص والغناء في تلفزتنا لا ينقطع ليل نهار بينما يتواصل سقوط قذائف الدمار على من بقي من أهلنا في غزة.
ولم يعُدْ لديّ ما أقوله وأنا أرى العلم الإسرائيلي ما زال يرفرف في عواصم عربية بجانب أعلامها الوطنية، أقصد أعلامها “الداخلية”، لأن كلمة الوطنية لا تنسجم مع المواقف المخزية لتلك العواصم، وأرى قنوات عربية تخصص مساحة هامة لتصريحات مجرمي الكيان الصهيوني، تبث بالصوت والصورة وكأن القضية لعبة كرة يريد البعض أن يثبت حياده تجاه أطرافها.
ولم يعُدْ لدي ما أقوله وبعض المعلقين عندنا يحاولون تحويل الحوار إلى تصفية حسابات عربية- عربية، ليس هذا وقتها أو مجالها، ويركز البعض على حرمان الغرب من الغاز العربي، وكأن هذا أمر يُمكن أن يُتخذ فرديا، أو كأنه أسبقية الأسبقيات في التصدي للعدوان، وهكذا يُغطي البعض على مواقف الخذلان والدياثة السياسية التي كان يجب أن تسبقها بلدانهم بالقطيعة الديبلوماسية، وهذا أضعف الإيمان الوطني.
أكثر من هذا، لم يعُدْ لدي ما أقوله والشارع الغربي (نقطة فوق الغين، احترازا من خطأ مطبعي) يبدو أكثر رجولة من الشارع العربي (بدون نقطة فوق العين).
هنا أضطر إلى العودة لأوضح أمرا كنت تناولت بعض معطياته في أحاديث سابقة، وكان مضمونه إدانة “الشمال” بوجه عام، وهو ما لا أتراجع عنه، حيث تأكد يقيني أن الصراع هو صراع حضاري اقتصاديٍ عرقيّ.
ورغم أنني لم أغفل في كتاباتي تقديري لدور “الشارع” في الشمال نصرةً لقضايانا، فقد رأيت أن أعود له اليوم على ضوء التظاهرات التي نتابعها في العديد من بلدان الشمال، والتي كان لها أثر كبير في تليين مواقف بعض القيادات الغرْبية تجاه المقاومة الفلسطينية، ولدرجة أن وزير خارجية واشنطن لم يعُدْ يردد أنه يهودي، بل وأصبحنا نسمع من “اليانكي” من يتباكى على أطفال غزة الذين تنتقم منهم إسرائيل لأنها تعرف أنهم مقاومو المستقبل، وهو نفس ما وقر في أذهان قيادات عرَبية، تقوم بأدوار مخزية، ربما خوفا من وضعيات مخزية سُجلت، بالصوت الصورة، في غُرفٍ مغلقة.
وللتذكير،كنت نوّهت بدور الشارع الفرنسي في رفض أكذوبة “الجزائر الفرنسية” وفي دعم المطالبة الجزائرية بالاستقلال، وبدور الشارع البريطاني في دعم الصمود المصري أمام العدوان الثلاثي، وبدور الشارع الأمريكي في مواجهة العدوان الأمريكي على فيتنام.
وما يهمني اليوم هو أن أقول بأن الشمال ليس كتلة واحدة متجانسة،حيث أن القيادات تحركها حسابات ترسمها أهداف الشركات البترولية الكبرى ومركبات صنع الأسلحة ومصانع المواد الغذائية الفاخرة، بجانب توجّهات عَقدية من بقايا دوافع الحرب الصليبية، لا أتصور أن “الفاتيكان” بعيد عنها.
أما الشارع الأوربي فقد أصبحت قريبا من الاعتقاد بأنه لا يختلف عن الشارع في أي مكان في العالم، وإن كنت لا أجرؤ، عفة، على التذكير بمقولة أحمد شوقي من أن الشعوب هي “ببغاء عقله في أذنيه”.
هنا نفهم سر العمل الخُرافي الذي يتواصل ويتزايد للسيطرة على قطاع الإعلام والثقافة بوجه عام، ولدرجة أنني أجرؤ على القول بأن القوة الضاربة الحقيقية لواشنطن تتجسد فيما تقوم به “هوليوود”، أكثر مما تنتج عما يقوم به “البنتاغون”.
والمضحك المبكي أن هناك أشقاء أوحي لهم بمضمون هذا التوجه، وكان لهم وجود في العديد من الأقطار الغرْبية، لكنه كان، في معظمه، وجودا مخزيا يرتكز على منطق تصفية الحسابات مع قيادات عرَبية بدلا من توجيه البندقية نحو العدوّ الحقيقي للوطن العربي، والكيان الصهيوني بوجه خاص.
وهنا أذكر بكل اعتزاز المداخلات المتلفزة وباللغة الإنغليزية، لمناضلين فلسطينيين في مقدمتهم مصطفى البرغوثي، وهي مداخلات فهِمَت العقلية الغرْبية وتعاملت معها بأسلوب علمي بالغ الذكاء، أتصور أنه كان فعّالا في تحويل اتجاه العديد من رجال الإعلام هناك بعيدا عن الانحياز الأعمى للبروباغاندا الصهيونية.
هذا هو هنا بيت القصيد اليوم من هذه السطور، لأن المواجهة المثمرة مع القيادات الرأسمالية الغربية والمنطق العقائدي النصراني – العبري، تتطلب بذل كل جهد ممكن لاستمالة الشارع في كل الشمال، وهو أمر ممكن يتطلب أساسا طول النفس والتحكم في لغة الخطاب، ويُحمّل جالياتنا المغتربة مسؤولية القيام بدور يملأ الفراغ الذي نشأ عن قصور معظم أجهزتنا الديبلوماسية.
هذا كله لا ينفي أن الفضل الأساسي في كل تأثير فعّال يعود للمقاومة الفلسطينية البطولية والتضحيات الهائلة للشعب في غزة هاشم، تماما كما أن الثورة الفيتنامية في الأربعينيات والخمسينيات والثورة الجزائرية في الخمسينيات والستينيات ومقاومة مصر في 1956 هي التي وضعت الشارع في الشمال أمام مسؤوليته الإنسانية.
وهنا تتأكد نذالة بعض القيادات العربية التي ما زالت تنصح شعوبها بألا تتابع الأخبار المزعجة، أو التي تحاول تكذيب ما ترويه القيادات في الشمال عن قصورها وتقصيرها، أو التي “تُموّلُ” الذباب الإلكتروني الذي يحاول إلقاء قنابل دخان تغطي النذالة والدياثة العربية.
وأتوقف عن مواصلة الحديث الذي قد تسوء مفرداته أكثر، أتوقف عنه احتراما للمنبر وللقراء ولنفسي.
وأردد ما قالته بعض الجماهير العربية في بعض تظاهراتها …ياربّ …ليس لنا إياك.