ثقافة وفن
وقفة عند رواية “اسمي احمر” لأورهان باموك
في وقت يتسارع فيه ايقاع الحياة، وتتعقد، حتى لم يعد لدى الانسان، فضلة وقت يزجيها في قراءة او تأمل، او الخلو الى ذاته، بسبب الاوضاع الاقتصادية التي ضربت كل مفاصل الحياة، وعلى مستوى العالم كله، والناتجة – كما ارى – عن الارتفاع المجنون لسعر برميل النفط، الذي بدأ ربيع عام 1973، بعد ان كانت الحياة سهلة وميسرة بسبب رخص الاسعار عالميا، وكان سعر برميل النفط يقل عن ثلاثة دولارات، ليزيد على مئة وخمسين دولارا صيف عام 2008، في ضوء تسارع الحياة، ما عاد بمكنة القارئ، قراءة اعمال روائية مطولة، تشبه ما انتجه روائيو القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مثل: (الحرب والسلام) لتولستوي، او (البؤساء) لفيكتور هيكو، بنسختها الحقيقية التي تزيد على الفين واربع مئة صفحة، او (الجريمة والعقاب) لدستويفسكي، او (سقوط باريس) لايليا اهرنبرغ، وغيرها كثير، يطلع علينا الروائي التركي (اورهان باموك) الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2006، والمولود في اسطنبول في السابع من حزيران/ 1952، بروايته المطولة جدا والمسماة (اسمي احمر) والتي تقع في ست مئة وخمس صفحات، حسب الترجمة العربية، التي قام بها (عبد القادر عبد اللي) ونشرتها دار المدى للثقافة والنشر بطبعتها الاولى سنة 2000، لكن المترجم لم يقل لنا في مقدمته الموجزة المبتسرة، هل ترجمها عن التركية، ام عن لغة وسيطة ثالثة؟ وان كنت ارجح الرأي الثاني، بدليل تعثر لغة الرواية وثقلها على سمع القارئ وبصره، مما يُزَهِّد القارئ في مواصلة القراءة.
الرواية هذه (اسمي احمر) رواية تأريخية، اعطاها كاتبها هذا العنوان لانها تتناول، موضوع الفن التشكيلي الاسلامي، ايام الدولة العثمانية، وسيادة اللون الاحمر، على غيره من الالوان المستخدمة في الرسم، وليست لها علاقة بما يرمز اليه اللون الاحمر سياسيا وفكريا.
الرواية هذه بناها الروائي باموك على هيئة فصول قصيرة، بلغت تسعة وخمسين فصلا، ولعل من اروع هذه الفصول، الفصل الاول المعنون (انا ميت) الذي يتقمص فيه الروائي اورهان باموك التركي الكردي، شخصية ميت، ويصور نوازعه وخلجاته، وهو يواجه معضلة الموت، وهو ماسبق ان ابدع في وصفه وتصويره المسرحي السوري سعد الله ونوس، ايام مرضه المميت، وتهويماته وابحاره نحو تخوم الموت، في كتابه (ذاكرة النبوءات) وكذلك ما افاض فيه وابدع الروائي الامريكي الاسود جون شتاينبك في روايته الجميلة (كأس من ذهب) الصادرة عن دار المدى سنة 2003 وقام بنقلها الى العربية الراحل سليم عبد الامير حمدان، على لسان القرصان (هنري موركان) في مرضه وهي تهويمات وخلجات تشبه ما يصدر عن الانسان، حينما يبدأ اثر المخدر بالتلاشي والخفوت، بعد اجراء عملية جراحية، حتى يستعيد وعيه، انها المنطقة الوسطى، بين اليقظة وعتمة الموت، او الخدر، يقول باموك على لسان (قرة) بطل روايته المطولة هذه (عندما فهمت بأسى انني سأموت لفني شعور بتوسع لا يصدق، عشت لحظة الانتقال بشعور التوسع هذا، تحقق انتقالي الى هذا الطرف بلطافة كما الانسان انه نائم في حلمه (…) اغمضت عيني كأني انام، ووصلت الى هذا الطرف بعبور لذيذ) ص10.
لم اقرأ سابقا عملا مترجما للمترجم عبد القادر عبد اللي، لذا لم اتعرف سابقا على قدراته الترجمية وامكاناته، نحن الذين نَمَينا ثقافتنا الاجنبية من خلال جهود اساطين الترجمة الى العربية: سهيل ادريس وزوجته عايدة مطرجي ادريس، ومنير بعلبكي وسامي الدروبي وخيري حماد وعبد الواحد محمد وجليل كمال الدين وحسن الجنابي وناطق خلوصي وجبرا ابراهيم جبرا ونجيب المانع والدكتور صلاح نيازي وعلي الحلي، وكمال ابو ديب وكامل يوسف حسين وسميرة عزام وسهيل ايوب ومحمد عوض محمد ومحسن جاسم الموسوي وغيرهم من كبار المترجمين، الذين كانوا يحذقون لغة الاصل، فضلا على لغة الوعاء، المنقول منها والمنقول اليها، لذا وجدت صعوبة في ترويض ذاتي على مواصلة قراءة هذا العمل الروائي الذي شاء كاتبه اورهان باموك ان يطيله ويمطه بشكل اساء الى عمله الروائي هذا، وزاد في الاساءة اليه مترجمه، الذي يذكرني بمترجمي الكتب المدرسية حرفيا، كلمة ازاء كلمة وحرفا ازاء حرف، دونما ابداع وتصرف، لا بمعنى مغادرة النص الاصلي، ولكن اضافة نكهة محببة الى النص المترجم، وهو ما قد يشير الى قدرات المترجم الذي يكاد يبدع لنا نصا اخر ومن هنا جاءت مقولة: الترجمة خيانة للنص لانك اذا كنت صاحب قدرات فائقة وخلاقة وتمتلك الحس اللغوي والذوق الادبي، لابد ان تترك بصماتك – مهما حاولت اخفاءها وكبحها – على الاثر المنقول.
كان هؤلاء المترجمون الكبار، ممن ذكرتهم آنفا، وممن لم تحضرني اسماؤهم كانوا يقدمون لنا نصا ابداعيا رائعا، لا يكاد يقل روعة عن النص المكتوب بلغة الاصل مما افادنا كثيرا وشكل مداميك ثقافتنا واسسها، فضلا على المتعة والامتاع.
اما وانت تقرأ النص المترجم لرواية (اسمي احمر) فلا تكاد تحس بأية متعة وبايما امتاع بل تطالع وعورة لغوية، وركاكة لفظية ناتجة عن هذه الترجمة الحرفية، فضلا على ضعف لغوي واضح، والا هل يجوز له ان ينقل العامي الى اللغة الفصيحة، بِرِكَّته وقبحه؟ اذ انا هنا اذكر بعض الشواهد النصية على سبيل المثال، لا الحصر، اذ يرد ص321 هذا النص العامي: (قبل مدة حكى الاصدقاء النقاشون حكاية حفظتها. فكر ملك الكفار الافرنج بالزواج من ابنة دوق البندقية. اذا كان على الزواج فسيتزوج (..) قالوا: ان الذي هيج الحصان الافرنجي ليس جمال المهرة البندقية – من ناحية الجمال فهي جميلة).
وهذا نموذج آخر عن النقل الحرفي، ونقل العامية الى الفصيحة (شخصان لم افهم من البستهما الخضراء والبنفسجية من رجال مَن هما، تسلماني من الصبي بصمت، وادخلاني الى غرفة مظلمة في بيت حديث البناء، وعرفت هذا من رائحة خشبه، ثم ضربا عليّ بالقفل، ولأنني اعرف ان السجن في غرفة مظلمة هو احد مراسم التعذيب توقعت ان يبدؤا معي بالفلقة، وانا افكر بكذبة الفقها لكي اتخلص من هذا المأزق، يبدو ان في الجوار ازدحاما. كان ثمة ضجيج هناك) ص363.
ولانني لا اريد الاثقال على القارئ فسأكتفي بهذا النص المنقول من الصفحة الرابعة والثلاثين بعد الاربع مئة: (قال: ادخلي الفراش وصيري زوجتي. قلت: كيف سيوجد السافل الذي قتل ابي؟(..) فجأة قفز من الفراش، وهجم علي. لم استطع حتى التحرك من مكاني (…) نحن وحدنا، قولي لي يا شكورة الخوافة (..) انك يمكن ان تحبيني، بعد ذلك تزوجنا (…) همست له: تزوجتك غصبا عني (…) ولكن شكورة الخوافة .. امسكت بنفسها ولم تنس نفسها (..) صرخت قائلة: هناك احد في البيت، ودفعت قرة وخرجت الى الموزع).
لا اعتقد ان اورهان باموك، الذي حاز شهرة واسعة، وترجمت رواياته الى لغات العالم الحية وغير الحية، وبيع من هذه الرواية، اكثر من مئتي الف نسخة في تركية فقط، فضلا على عمليات النشر غير المرخص بها من لدن الروائي، او عمليات الاستنساخ خارج حقوق المؤلف وحقوق الطبع، ومن ثم يجلب اهتمام النقاد في العالم وتوج هذا الاهتمام به والاعتراف بامكاناته السردية بمنحه جائزة نوبل للآداب، يكتب بمثل هذه اللغة الركيكة والاوصاف السوقية، اذن هناك ضعف تعانيه الترجمة، مما افقد النص جماله وبهاءه، ومن ثم زَهَّدّ القارئ فيه واضعين في الحسبان، امتداد هذا العمل الروائي (اسمي احمر) الى ما يزيد على ست مئة صفحة، انك لو اردت من قارئك ان يواصل الابحار معك وعلى مدى هذه المئات الست من الصفحات، فلابد من ان تقدمها بالشكل الجميل الذي يشد القارئ ويفيده ويمتعه، ولو لم يكن هذا العمل، حاويا على كل هذه الصفات والمهارات، لما اقبل عليه القراء في تركية والعديد من دول العالم.
تقرأ هذا وتقارنه بالذي تقرأه او الذي كنت تقرأه فتجد البون شاسعا يوم كان المترجم يحترم قراءه ويحترم نفسه، فكان زيادة في التقوى وزيادة في الدقة، يعرض مخطوطة الكتاب على خبير لغوي ونحوي وفكري، يراجعه، لذا كانت تطالعنا عبارة: راجع النص فلان الفلاني، اذ بعد انتهيت من قراءة رواية (اسمي احمر) لاورهان باموك، والتي ترجمها (عبد القادر عبد اللي) الذي لم اقرأ له حرفا مترجما قبل ذلك، بدأت بقراءة السمفونية اللغوية الابداعية الرائعة، التي تعزفها على اذواقنا ومسامعنا كتابة السيدة الفرنسية التي عاشت مع طه حسين اكثر من نصف قرن، منذ ان تعارفا في مونبليه في 12/ من مايس/ 1915، يوم ذهب طه حسين للدرس في فرنسة، ومن ثم توجا هذه الصداقة والمحبة بالزواج في 9/ من آب/ 1917، وحتى مغادرة طه حسين للحياة يوم 28/ من تشرين الثاني، 1973، لقد امتعتنا ايتما متعة سوزان طه حسين في سردها السيري الذاتي والذي وسمته بـ(معك) وكتبته بالفرنسية لكن تولى نقله للعربية المترجم الضليع بدر الدين عرودكي، وراجع الترجمة الاديب المفكر محمود امين العالم، الذي خسرته الثقافة العربية الرصينة مطلع العام 2009 (الجمعة 9/ من كانون الثاني/ 2009) لقد تعاونت على هذا الكتاب مواهب عدة، كاتبة النص التي رافقت الاديب والكاتب المصري الكبير طه حسين وتولى نقله مترجم ذواق يحسن لغة الوعاء، ولغة الاصل ومخلص في عمله، يحترم نفسه وتأريخه وقارءَه، في حين تولى مراجعة النص من نواح عدة الناقد الفيلسوف محمود امين العالم، بثقافته الواسعة، وامكاناته المعرفية، فضلا على دقته واخلاصه، والذي ظل يشكو اضاعته الدكتوراه، على الرغم من كل هذا المجد والشهرة اللذين سيجلبان له خلودا.
لقد كان هذا نهجا قويما دأبت عليه الكثير من دور النشر، فلو رجعنا الى كتاب (الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الاسلام المبكر) الذي كتبه بالفرنسية المفكر التونسي المعروف هشام جعيط، وقام بترجمته الدكتور خليل احمد خليل، فان المؤلف زيادة في الدقة قام بمراجعة النص المترجم، وهذا كتاب (صور المثقف) للمفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد والذي يمثل المحاضرات العشر التي تلقى على مدى سنة واحدة وتسمى محاضرات (ريث) التي القاها سعيد عام 1993، فقد ترجم المحاضرات القيمة هذه غسان غصن، في حين راجعت النص المترجم منى انيس.
وقد صدر من هذه المحاضرات التي تقدمها هيئة الاذاعة البريطانية، سنويا، تكلف مفكرا او اديبا بالقاء عشر محاضرات خلال السنة والتي افتتحها الفيلسوف البريطاني المدوي برتراند رسل المتوفى في الاول من شباط/ 1970، صدرت من هذه المحاضرات لادوارد سعيد ترجمة اخرى قام بها الدكتور محمد عناني وتحت عنوان (المثقف والسلطة) Representation of the antellectual وهذه رواية (الخيميائي) للكاتب البرازيلي الشهير باولو كويلهو، ترجمته فاطمة النظامي، وراجع النص الدكتور محمد الدبيات، وكتاب اخر عنوانه (عزلة غابرييل غارسيا مراكيز) وهو عبارة عن حوار اجراه معه ميغيل فرنانديز براسو، ترجمته ناديا ظافر شعبان وراجعه انعام الجندي، ولن اطيل، فهذه المسرحية الشهيرة (عربة اسمها الرغبة) التي اطلقت كاتبها الى دنيا النجومية والثراء والشهرة، ترجمها عزيز متري عبد الملك وراجع النص المسرحي المترجم: احمد خاكي. ورواية (نقطة مقابل نقطة) تأليف الدوس هكسلي (1894 – 1963) ترجمها الدكتور نظمي لوقا، ولم تكتف دار النشر بامكانات المترجم لوقا, بل عرضت النص على الاديب والكاتب الكبير الذي عاش نحو مئة عام الاستاذ علي ادهم – رحمه الله – اما رواية (اولئك الذين تحت) للروائي المكسيكي (ماريانو اثويلا) – 1873 – 1952 فقد ترجمها المترجم القدير الدكتور حسن البياتي، لكن دار الشؤون الثقافية العامة عرضت النص على الاديب والمترجم الدكتور ضياء نافع لغرض مراجعته والمختص بالادب الروسي، فهل ستعيد دور النشر هذا الطقس الجميل الى سابق عهده؟!! نرجو..
في الترجمة واناقتها ودقتها وقفة عند رواية (اسمي احمر) لأورهان باموك