لكي تكون ولاته 2 أنجح من ولاته 1 / سيداحمد خو موظف سابق لدى الأمم المتحدة
تتجه الأنظار الى ولاته حيث سيحتفل الوطن كله بثقافة وتاريخ المدينة وهذه لعمري سنة حميدة ولذا وجب الانخراط فيها وإمدادها بالمساندة والنصح الخالص والمقترحات العملية حتى نسمو بمهرجان المدن القديمة عن جانبه الفولكلوري البحت.
ولاته، ليست كغيرها من المدن ، انها حاضنة ثقافتنا العالمة على مدار القرون، فلولاها ولولا اخواتها ما كان لنا ان نعتز ببلد المنارة والرباط والامم العريقة امتداد لماضيها الضارب بجذوره في اعماق التاريخ، اما الامم الفاشلة فهي التي تترنح تتقاذفها زوابع العولمة في دنيا الحضيض.
ولاته، ليست عاصمة مقاطعة فحسب ولكنها العاصمة الثقافية للوطن عامة والشرق الموريتاني بصورة خاصة، تعالو نتتبع خريجي المدرسة الولاتية نجد ان كبار العلماء او جلهم تتلمذوا على ولاته او على مصاديرها.
ولم يقتصر إشعاعها العلمي عن الوطن بل تعداه الى الجوار، الى ازواد، الى تمبكتو التى كان للولاتيين بها حي كامل
وكانت ولاته الملاذ للعلماء عندما يمتحنون (تذكروا تاريخ أسرة احمد بابا التمبكتي وهجرة علماء سنكورى الى ايولاتن وتازخت)، الى اتوات حيث كانت قافلة الحجيج تجتمع قبل الانطلاق، الى السودان وأسرة أهل احمد دوكورى خير شاهد (وقد كتب بول مارتي ان عشرات المدارس القرءانية في باماكو بداية القرن كانت ولاتية)، الى الغرب والمشرق عبر رحلات الحج (راجع الرحلة الحجازية للفقيه محمد يحي الولاتي رحمه الله، توقف معه في كل المحطات لترى مساهماته العلميه، سواء في واد نُون او مراكش، او في الحجاز و الجامع الأزهر والزيتونة والزاوية التيجانية بتونس او بفأس والجزاير).
ولاته، ارض مباركة، مصلى كبير، جامع مفتوح، مجتمع متحضر صمد في وجه عاديات الزمان، سلاحه العلم والإيمان ، ومن قيمه المركزيه الاعتماد على الذات وحب الاوطان .
فيا داخلا ولاته خفف الوطء، واعمل الفكر وتأمل بخشوع، كل شارع له تاريخ، كل منزل له قصة، كل حجر، كل مدر.
هنا بلد العلماء .
في هذا الشارع كانت حلقات دروس العقيدة تقام حول الطالب محمد بن الطالب بوبكر الصديق البرتلي اوأعمر الولي بن الشيخ محمد عبد الله المحجوبي .
في تلك “الرحبة“، منبر فقه تتالت عليه اجيال من الفقهاء تَرَكُوا بصماتهم في عشرات المخطوطات ، منهم الطالب احمد والطالب محمد البرتليين ، وَعَبد المالك بن النفاع الداودي، وسيدأحمد بن بوكفة ، ومحمد يحي الولاتي ومحمد يحي اليونسي، وغيرهم.
في ذلك الزقاق، كان الطالب عمر و الطالب البشير الايديلبيين يجيزان في القراءات السبع، وهناك كان احتدم الجدل بين حزب الجيم المنعقدة (مدرسة سجلماسة) والجيم غير المنعقدة.
فإذا دخلت المسجد، مسجدا أسس على التقوى من اول يوم، فحيه ولا تستعجل؛ في ذلك الركن كان يدرس “صحيح البخاري” ، و“نور الحق الصبيح” لمحمد يحيى الولاتي، وكان المداحون يترنمون بقصائد من “ديوان السعادة في مدح صاحب السيادة” لا انبوي أعمر .
وإن لم تغادر بعد صلاة العصر فعسى تمسك نفحات من بركات تدارس “الشفا بتعريف المصطفى” للقاضي عياض.
هنا بلد الشعراء واللغويين.
اسأل من شئت عن “شرح المكودي” او “بزوغ الهلال على لامية الأفعال” للبرتلي او “فتح الأقفال” على “بحرق” او ملحة الاعراب او ” المواهب التليدة في حل ألفاظ الفريدة“، واسأل مَنْ شيت عن مقامات الحريري وعقود الجمان واليوسية والمقصورة الدريدية والشقراطيسية ولامية العرب ولامية العجم وحتى الشمقمقية ، تجدهم. يحفظون كل ذلك عن ظهر قلب بمتنه وشروحه.
هنا بلد القضاة.
هنا بلد القضاء والمرافعات، بلد الفروع والاصول، شرحوا العاصمية وهضموا التاودي والتسولي وفكوا الوثاق عن لامية الزقاق (اند عبد الله المحجوبي) فجاءت الاجوبة والفتاوى والنوازل بحر لا ساحل له (نوازل عثمان الكبير ، نوازل الكصري، اجوبة انبوي…)
هنا بلد العباد والمحبين، أهل مقام الاحسان.
تلك منازل القوم، أطلالها، عرج بها ولايفتك التبرك والاعتبار، هنا عمر الولي تاج البلدة، هناك عبدالله المكي متزوج اليتيمات ومعيل الفقيرات، وهناك مازال صدى نغمات الولي الصالح الخضر بن الفقيه محمد الجماني تردد ابن مهيب:
“خليلي عوجا بالمحصب وانزلا ***ولا تبغيا عن خيفه متحولا
فأكرم به مغنى تحراه منزلا *** أحق عباد الله بالمجد والعلا
نبي له أعلى الجنان مبوأ.”
وما اراك لو قمت فجرا الا سمعت مناجاة العباد ترتفع في خشوع وانكسار وسمعت بكاء ابن محمد نض الولاتي:
مالي على اللهو واللذات واللعب *** عكفت ويحيى فما يكون منقلبي
ولَّى الشباب وأقبل المشيب ولم *** أفق ولست بذي علم ولا أدب
قد ينقضي اليوم ثم اليوم يتبعه *** شهر وعام بل أعوام ولم أتب
هذه هي ولاته التي نحبها وتحبنا، مستودع العلم والقيم، فعلى مجلسنا الجهوي ان يعلنها عاصمته الثقافية وعليه ان يعمل على تطويرها على جميع المستويات فهي بطاقة تعريفنا.
اما العبء الكبير فيقع على عاتق الدولة ويتطلب برمجة شاملة للنهوض بالمدينة وانتشالها من الضياع، وَقَد أشرنا الى ذلك في مناسبة سابقة، وما زالت المطالَب هي هي:
“إن من واجب كل أمة الحفاظ على ثقافتها ومعرفة تاريخها لتكون على بينة من أمرها (تعرف من أين أتت وإلى أين تسير)، لذا كان وجوب الالتفاتة إلى برنامج ولاته فرض عين لافرض كفاية، لأنها أمانة عظيمة في أعناقنا يجب تسليمها إلى الأجيال القادمة التي هي بحاجة إلى معرفة جذورها الثقافية حتى لا تعصف بها زوابع العولمة الهوج التي لا تبقي ولا تذر. فكلما كانت الجذور ضاربة في الأعماق كان خطر المسخ أقل، وكلما كان المجتمع عارفا بقيمه كان نسيجه أقوى وتلاحمه أمتن، ومن هذا المنطلق فإن تراث ولاته يستحق منا عناية أكبر فهو تراث غني نحسد عليه، لم يترك فرعا من العلم إلا وله فيه مساهمات جوهرية أيام كانت دياجير الجهالة في القرون الوسطى تنوء بكلكلها على كثير من الأمم .
وقد رأينا أن هذا الرصيد الثقافي الهائل قد تكون مع الزمن ونما بفضل قيم صوفية معتدلة متحضرة ورحلات إلى الحج ربطت المدينة بالعالم الاسلامي فأعطت وأخذت وساعد على ذلك موقعها الجغرافي الفريد الواقع على تقاطع الطرق الصحراوية بين الواحات المتناثرة في الصحراء وبين شمال افريقيا وجنوبها فكان بمثابة نقطة وصل بين الجميع، وأخيرا وليس آخرا بفضل اتصال عميق ـ لم تدرس بعد ظروفه وقنواته ـ بالتراث الأندلسي.
لقد طال إهمالنا لولاته ربما لجهلنا بالكنز، واليوم –وقد بدأت إرهاصات اهتمام نرجو أن يستمر– نرى أنه من الضروري إنشاء جامعة إسلامية في ولاته لتأخذ المشعل وتباشر العمل في ترميم الصرح المتصدع فتاريخ ولاته مازال مطمورا لا في المدينة ونواحيها فحسب، ولكن جل علومها مازال ضائعا في مخطوطات توات وتنبكتو وأروان …و..و..!
لقد آن الأوان لإحداث نقلة نوعية في هذا المجال توجه البحث والباحثين إلى هذا التراث المهمل وذلك بعقد المهرجانات والندوات الموسمية ومنح الجوائز(فمن يخطب الحسناء لم يغلها المهر!).
ونظرا لموقع ولاته الاستراتيجي الذي جعلها حاضرة التاريخ الثقافي لشمال وغرب افريقيا فإن الاحتفاء بها يجب أن يتخطى حدود الوطن حتى نمد إلى الجيران جسور التواصل كما مدها أجدادنا ولن يكون ذلك ممكنا إلا إذا ربطنا المدينة بطريق يليق بمقامها – الآن، الآن وليس غدا!،هكذا تكون الالتفاتة إلى برنامج ولاته عمرها الله ، برنامج العلم والعلماء.”
تعليق واحد