«العجوز والبحر» لهمنغواي: مسعى روحي لسكينة سنوات النهاية
«إنه لا يملك أية شجاعة. لم يخض في حياته أدنى مخاطرة. ولم يستخدم في كل كتابته أي كلمة قد تتطلب من القارئ إستعمال قاموس». هذا الكلام قاله ذات يوم الكاتب الأميركي ويليام فوكنر عن مواطنه الذي كان يُعتبر منافسه الوحيد في ذلك الحين على تزعّم الرواية الأميركية، إرنست همنغواي. وطبعاً سيدهش القراء كثيراً أمام هذا الحكم الذي سيعتبرونه جائراً في حق أديب قامت شهرته أساساً على شجاعته. تلك الشجاعة التي ستوصله الى انتحار قد يليق بأشجع الشجعان. وقد يدهش القراء إزاء حكم يأتي على لسان ذلك الكاتب الكبير الآخر الذي أُثرت عنه دقة في الكلام وتحفّظ في الأحكام. ومع هذا قالها فوكنر ذات يوم، ما جعل همنغواي يرد عليه من فوره قائلاً: «يا له من مسكين هذا السيد فوكنر!… هل تراه يعتقد حقاً أن المشاعر الكبرى تولد من الكلام الكبير؟ هو يعتقد أنني لا أعرف تلك الكلمات التي يبلغ سعر الواحدة منها عشرة دولارات! إنني أعرفها بالبداهة، لكنْ هناك ألوف وألوف الكلمات الأخرى، كلمات أكثر عراقة وبساطة، وهي الكلمات التي أستخدمها بكل بساطة…» واستطرد همنغواي قائلاً: «عندما أقرأ فوكنر يمكنني أن أحدد بكل دقة المكان الذي يستبد فيه التعب لينصرف إلى الكتابة مستعيناً بالويسكي…» والحقيقة أنه كان من شأن هذا السجال الجارح بين الكاتبين الكبيرين أن يتواصل، لولا أن حدثاً ما أطل برأسه دافعاً فوكنر إلى التراجع. وكان عنوان ذلك الحدث «العجوز والبحر». ففي حوارات أُجريت مع صاحب «الصخب والعنف» في جامعة فرجينيا أسهب هذا الأخير في امتداح تلك الرواية واصفاً إياها بأنها «من أفضل ما كتب همنغواي وتحديداً لأن شخصياتها تتحرك وسط نوع من الفراغ من دون أن يكون لها ماض ثم، وبصورة مباغتة، تكتشف حضور الرب».
> ونعرف بالطبع أن هذا العمل الأدبي الذي اختتم به إرنست همنغواي مساره الإبداعي، كان أقرب إلى الحكاية منه إلى الرواية. وذلك بمعنى أنه يبدو كحكاية خرافية مبتعداً ابتعاداً كبيراً عن تلك الروايات «العقلية» المحكمة التي كان القراء، عند منتصف القرن العشرين – أي في زمن التغيّرات الإنسانية الكبرى – ينتظرونها من صاحب «لمن تقرع الأجراس» و «وداعا للسلاح» و «الشمس تشرق ثانية» وغيرها من أعمال قد يكون من الضروري أن جاذبيتها وإبداع الكاتب في رسم شخصياتها، ساهما مساهمة أساسية في التقاط السينمائيين لها لتحويلها أفلاماً ربما كانت هي، وأحياناً أكثر من الروايات نفسها، ما أعطى همنغواي شعبيته الكبرى. ولعل هذا الكلام ينطبق خاصة على «العجوز والبحر» التي نرجح أن ملايين مشاهدي الأفلام قد اكتشفوها قبل عشرات ألوف القراء. فالفيلم البديع الذي حققه جون ستارغز عنها أواسط سنوات الخمسين، عُرض في شتى أنحاء العالم قبل أن تصله ترجمات الرواية المختلفة.
> وعلى هذا النحو تعرّف متفرجو الفيلم على شخصية سانتياغو العجوز تحت ملامح سبنسر ترايسي، قبل أن يتعرفوا على ذلك العجوز الكوبي الطيب بالشكل الذي رسمه قلم همنغواي في تماش مع هواه الكوبي الذي كان غالباً عليه في ذلك الحين، هو الذي لا بد من الإشارة هنا إلى أنه حتى وإن كان قد جعل أميركيين وأميركيات شخصيات رئيسية في عدد كبير من رواياته الأساسية، جعل مسارح تلك الروايات أماكن خارج وطنه فدارت أحداث تلك الروايات إما في أفريقيا أو في باريس أو إسبانيا، الى درجة تفكّه معها البعض قائلين إن من فضائل «العجوز والبحر» أن الكاتب اقترب فيها للمرة الأولى إلى هذا الحد من الشواطئ الأميركية.
> ونعرف أن سانتياغو ليس الشخصية الأساسية الوحيدة في الرواية، فهناك إلى جانبه الفتى مانولين وقد انطلقا كرفيقين في رحلة غايتها اصطياد السمك على مركبهما في المياه الكوبية. وهما خلال الأيام الثلاثة الأولى لم يعثرا على أية طرائد. ولكن بعد ذلك وفي شكل غير متوقع، يظهر لهما حوت ضخم يكاد يكون أسطورياً، حتى وإن لم يكن طبعاً بضخامة حوت هرمان ملفيل في روايته الخالدة «موبي دك» التي لا شك في أن همنغواي جعل منها نموذجه المحتذى، كما سيفعل كثر لاحقاً مع «العجوز والبحر» نفسها فيقلدونها إلى حدود الكاريكاتورية! المهم أن همنغواي يصوّر لنا بلغته المدهشة وتعابيره الصارمة ومن خلال العلاقة بين الرجلين من ناحية والحوت من ناحية أخرى، ملامح إنسانية تنطلق، كما العادة لدى هذا الكاتب، من رصد الفشل الذي ينتهي إليه كل جهد بشري مهما كان حجم الشجاعة الماثل في خلفيته. والحقيقة أن الفشل الذي تنتهي اليه مغامرة سانتياغو ومانولين هنا، يأتي ليس على شكل حسم ما للصراع الذي يتواصل ثلاثة أيام بين السمكة الضخمة والصيادَيْن، بل على شكل عنصر خارجي يتمثل في مجموعة من حيتان تستفيد هي من الصراع فتلتهم الحوت المصارع حارمة منه العجوز ورفيقه الشاب.
> كما أشرنا إعلاه، وإن تلميحاً، نعرف أن كثراً من الدارسين قد قاربوا بين «العجوز والبحر» و «موبي دك» ولا سيما من خلال الصراع غير المتكافئ الذي يقوم في الروايتين بين الإنسان والقوة الأكبر في الكون ممثلة بالحوت في المرتين. بيد أن علينا أن نلاحظ هنا فارقاً أساسياً في المعنى الخاص به الذي يحمله كل من العملين. فلئن كان الصراع الأكبر يتخذ طابعاً ميتافيزيقياً صارماً في رواية ملفيل، فإنه هنا عند همنغواي لا يبدو متسماً بأكثر من اللازم بذلك البعد، بل يبدو متجهاً في نهاية الأمر نحو نوع من الدعة المذعنة للهزيمة ما يعطي العمل طابعاً روحياً يبدو متلائماً مع ما كانت عليه أحوال إرنست همنغواي في ذلك الحين. بل لنقل هنا، نقلاً عن كثر من دارسي علاقة كتابة همنغواي بحياته، أن الصفحات الأخيرة من «العجوز والبحر» تبدو وكأنها تصف ما طلع به الكاتب من مسعاه الروحي الذي كان قد قاده طوال ما يربو عن ثلاثين من سنوات حياته إلى خوض غمار البحر الكاراييبي بحثاً عن… ذاته أكثر مما عن أي شيء آخر.
> والحقيقة أن «العجوز والبحر» تبدو من هذا المنظور بالذات، من أكثر نصوص هذا الكاتب ذاتيّة وتجريبية في مجال سبره أغوار ذاته. فالمعروف عن همنغواي أنه، وفي الغالبية العظمى من أعماله التي ذكرناها أعلاه، أو لم نذكرها، تحدث دائماً عن أشخاص يعرفهم، حقيقيين أو متخيلين، وأنه وإن كان قد أدخل بعضاً منه في تلك الروايات، وحتى القصص القصيرة، فإنه أبداً لم يجعل من ذاته شخصية كاملة في أي من الروايات أو القصص. ربما يكون وزّع نتفاً من تلك الذات على هذه الشخصية أو تلك، لكنه يبدو لنا وكأنه احتفظ بالحصة الكبرى لهذه الرواية الأخيرة التي سيقول لاحقاً إنها المشروع الذي رافقه طوال حياته ومنذ اكتشف البحر باكراً. ومن هنا يحق لنا أن نفترض أن همنغواي قد صوّر نفسه في «العجوز والبحر» موزعاً بين الفتى مانولين والعجوز سانتياغو، وأقام ذلك التناحر ثم الحوار ثم التواطؤ بين الشخصيتين وكأن ما يقدمه هنا حوار الذات الذي حمله عشرات السنين ليشعر أخيراً بأن في إمكانه الآن أن يطرحه على الورق. وفي هذا السياق، لن يبدو لجوؤه إلى الاستعانة بالمبدأ الحدثي الذي تقوم عليه رواية «موبي دك» مجرد مصادفة. فهمنغواي كان يقول دائماً إن رواية هرمان ملفيل هذه كانت واحدة من أولى الروايات التي قرأها في حياته، مفترضاً – وأحياناً بما يشبه الجزم – أن تلك القراءة هي التي فتحت عينيه على إمكانية أن يكون روائياً في المستقبل. ومن هنا تلك الخصوصية السردية التي خصّها بها وذلك «الإذعان الرواقي» الذي يطغى على خاتمتها.
> وإلى هذا، قد يكون من الملائم أيضاً أن نضيف إلى ذلك التأثر الحاسم برواية ملفيل تأثراً آخر، يعود بدوره إلى عهد الطفولة حيث يُروى أن إرنست الفتي قد تعلم صيد السمك مع صياد يدعى فوللي فوكس اشتهر باصطياده ذات يوم سمكة عملاقة أُطلق عليها لضخامتها اسم «السمكة». وبقي أن نذكر أخيراً أن رواية «العجوز والبحر» قد مكنت همنغواي (1899 – 1961) من أن يحصل قبل انتحاره المريع بسنوات قليلة، على جائزة بوليتزر ثم على جائزة نوبل للآداب…. ما ساوى في نهاية الأمر بينه وبين ويليام فوكنر الذي حصل بدوره على جائزة «نوبل» العام 1949، أي قبل همنغواي بسنوات قليلة.
ابراهيم العريس والمقال للحياة