“حدَث في برايتون” رواية أولى لسامح فوزي تفضح واقعاً مريراً /محمد سليمان
لا تقرأ رواية “حدث في برايتون” (روايات الهلال- القاهرة) للكاتب المصري سامح فوزي إذا كنت من هؤلاء الذين يتناولون الأمور بسطحية، أو كنتَ مِن الذي يقتلون الوقت بالقراءة غير المتأنية؛ وإن كان هذا محموداً في بعض الأحيان. فرواية “حدث في برايتون”، وهي العمل الروائي الأول لكاتبها المتخصص في علم الاجتماع السياسي، تحمل من الأفكار والمواجهات النفسية ما لا طاقة لك به، إذا كنت أصوليَّ التفكير، رجعيَّ المنهج، أو كنت من الذين تستكين أنفسهم للثوابت. هي رواية صادمة في بعض الأحيان، تثير في النفس بعض الألم تجاه واقع مرير، بما أنها تتصدى لسلبياتٍ كثيرة مسكوتٍ عنها، باختزال قد يرهق ذهن القارئ العام.
تصدَّى الكثير للرواية عموماً باعتبارها مواجهةً بين الذات والآخر، و”حدث في برايتون” هي كذلك من خلال مونولوغ لفتاةٍ مصرية من أسرة فقيرة، تنتقل إلى جامعة ساسكس في مدينة برايتون الإنكليزية، فتصدمها النَّقلة الحضارية بين المجتمعين، بل تصدمها العاداتُ والتقاليد، وطريقة التفكير، ومعاناتها لتقبُّل الفكر والمجتمع المنفتح الجديد، وصراعها الداخلي في المقارنة بين مجتمعٍ وُلدت وتربَّت فيه، وبين مجتمع منفتح مختلف تمامًا عما نشأت فيه. وفي هذه الرحلة للبحث عن الذَّات أو البحث عن السعادة ينقد الروائيُّ في صفحات الرواية الأولى التي تتميز بالتشويق؛ المجتمعَ المصري بقسوة، من خلال تفكير هذه الفتاة التي تُدعي “منة الله” ومن خلال المواقف التي تمرُّ بها، فيبدأ بوصفِ حالة الكثير من الموظفين، والعاملين، وطبائعهم، من خلال مركز الأبحاث الذي تعمل به الفتاة نفسها في القاهرة، قبل سفرها إلى بريطانيا.
ومن أوصاف الروائي وسَرْده للمواقف نجد أنه شديدَ الملاحظة، يكاد يكونُ قد التصق بالمجتمع لدرجة عالية؛ ليضرب على أوتارٍ تُوجع كلَّ غيور على بلده، يرنو إلى تقدمها، ويصف وصفاً دقيقاً مفصَّلاً، قد يجور على الموقف في بعض الأحيان، ولكن يتميز بالواقعية الشديدة. ويتميز الروائي كذلك بقدرته على تحليل الأشخاص، حتى الثانوية منها. فانظر كيف يصف الدكتور طلعت رشوان ويحلِّله، فعلى سبيل المثال يقول: “إن طلعت رشوان رغم سلوكه الخيِّر تجاه تلاميذه، يعيش حالةَ صراعٍ دائم مع نفسه، ويُمنِّيها بأن يظل مؤثِّراً، في مجالسِ الأساتذة والطلاب. وهو أراد بدهاءٍ أن يتخذ من المنحة التي حصلت عليها “منة الله” بمساعدته؛ رسالة إلى مجتمع الجامعة بأنه لا يزال فاعلاً، من الناحيتين الأكاديمية والإنسانية. وتتعرض الرواية لقضايا شائكة، بدايةً من عادة المصريين في إخفاء نتائج امتحان أولادهم خِيفةَ الحسد، أو عدم الفضيحة، إلى قضية الخِتَان، وقضية الحجاب، وظاهرة الداعية الإسلامي الحديث الذي يلبس أسلوبَ ومنهجَ البروتستنتي في الدعوة، وكذلك الفكر المتجمِّد الذي يدور في رأس بعض المسلمين تجاه المسيحيين. وهنا تبرز شخصية “القس فيليب” الذي تحوَّل إلى صديقٍ للفتاة، بعدما كانت تخافُ أن يحوِّلها إلى مسيحية وفقاً لأوهامٍ قد رُسمت في مخيلتها.
وتعدَّى فوزي ذلك لوصف تدني حال البحث العلمي، والسرقات العلمية، وعدم الاستناد إلى المصادر، بأسلوب شيقٍ ومن خلال مواقف صادمة تنساب بين جنبات الرواية برشاقة، ومنها مشهد بديع ساهَم في تغيُّر فكر الفتاة، حين رأت السِّنجاب يختار ولا يقبل بالأمر الواقع، ولا ينصاع إلى الظروف، ويبحث عن الأفضل، ما يساعدها على الثورة على الثوابت والعادات البالية. اختارت أولاً أن تغير شكلها الخارجي، ثم غيرت سكنها في محيط ريفي إلى آخر في مواجهة البحر حيث تفتح نافذتها لتراه أكثر رحابةً من سكنها السابق. تبدل المنظر من خضرة المراعي إلى زُرقة البحر، من صوت العصافير إلى صوت النوارس. حالةٌ جديدة، تعكس تحولاً نفسياً، يعد إيذاناً بأنها مُقدمةٌ على تغييرٍ جذري، وقد حدث.
ومع هذا التغيير، لم تتخلّ الفتاة عن التزامها، فما المانع أن تكون منفتحةً على الآخر، وأن تظل مؤمنةً بمعتقداتها، وتحترم الآخر وتتقبَّله؟!
جاءت الرواية مترابطة البِنية، اختار فيها الروائي سرداً واقعياً يقصد به إثارة الاهتمام، فأخذ شخصيةً محورية، وانتقى الأحداثَ والمواقف التي تنتمي إلى تلك الشخصية، وهي إحدى طرق ثلاث معروفة، تُكتب بها الرواية، وفقًا لما صنَّفه روبرت ستيفنسون. أما مقوِّمات البناء الدرامي للقصة، فهي مكتملة، فبالنسبة للشخصيات تبنَّى الروائي شخصيةً رئيسة، وهي “منة الله” وهي البطلة، واختار شخصيات ثانوية كثيرة، منها المُعينة، ومنها المُعيقة، ربما لا نجدُ فيها تأثيراً قوياً على البطلة، باستثناء شخصية صديقتها “ماريانا أورتيغا” وفي ما بعد “صفاء” التي لم تعوِّضها عن صديقتها “ماريانا” عند عودتها إلى مصر.
أما المكان فقد حُصرت الرواية في مدينة برايتون، وبعض الأماكن الثانوية مثل المدن التي زارت “منة الله” في أوروبا، وقريتها في مصر، ولكن كان لبرايتون وجامعتها نصيب الأسد، والتي يعرِفها الروائي عن ظهر قلب، بل يجد المتعةَ في وصفها بأدقِّ شوارعها ومحلاتها ومطاعمها؛ حتى يخيَّل إلى القارئ أن الروائيَّ نفسه يعشق هذه المدينة، أكثر من بطلته، ويثير فضولك نحو زيارتها.
يمتد زمن الرواية أعواماً كثيرة، منذ تخرُّج “منة الله” إلى حصولها على درجة الدكتوراه وزواجها وإنجابها مريم وهو اسمٌ ذو دلالة روحية لدى المسلمين والمسيحيين على السواء، مع إشارات سريعة إلى أزمنة مختلفة؛ لترصد الطفولة البائسة لبطلتنا.
وأما من ناحية الحبكة، فأحداث الرواية تبدو لك كأنها غير غزيرة، وأكثرها تأملات في الذات، اتَّبع فيها الروائي أسلوب المناجاة، التي تخاطبُ فيها الشخصية الرئيسة نفسها. وقَلَّ السَّرد بما لا يخل ببناء الرواية، مع حوارات قليلة، حتى يكشف عن دوافع الشخصيات وطباعهم، وكثرة تعليقات الروائي لإبراز رأيه في شأن أو قضية تخص البطلة، وانتهز هذه التعليقات في كشْف العيوب، والتأصيل إلى قضية ما مُلِحَّة في ذهنه، أو لبُعدٍ اجتماعي تكون البطلة ضحيةً له.
ونتابع الحدث الرئيسي في الرواية، وهو سفر “منة الله” إلى برايتون، ثم تفكيرها في التغير، وصولاً إلى التأزم، قُبَيل لقائها بالقس “فيليب” ثم يصل بعدها القارئ إلى النهاية الحتمية لجميع هذه المقدمات للتغير، وجاء الخيال بصورة بسيطة مستساغة، ولغة سلسة صاغت أفكاراً تنمُّ عن ثقافةٍ واسعةٍ، وانفتاحِ ذهني على تقبل الآخر من دون مساسٍ بمعتقداته.
المقال للحياة
110 تعليقات